دهليزرئيسي

“فتيةٌ إن أمروا المجد استجابا”.. شباب سبتمبر شرارة الثورة وقادتها

تقرير – شباب هاوس – عصام علي

في الساعة الحادية عشرة من ليلة الخامس والعشرين من سبتمبر 1962، صدحت أصوات الضباط الأحرار في دار البشائر بصنعاء، داعية الإمام البدر للاستسلام مع أفراد حراسته، فاشتعلت بعدها النيران وأصوات الرصاص والمدافع من كل جانب، لتُعلن بزوغ فجر طال انتظاره، وزوال ليل مكث كالجاثوم على صدر اليمن وشعبها عشرات السنين.

إنها ثورة 26 من سبتمبر المجيدة، التي كان الشباب ركيزتها وعِماد قوامها وموقد شعلتها ورأس حربتها، وكانوا هم النواة الأولى التي شكلت ملامح التحرير ودفة النضال وأشرعة الحرية، لإخراج اليمن من براثين الكهنوت وجلباب الإمامة وبوتقة العبودية إلى عصر النور.

شبيبة وطلبة أوقدوا شعلة الثورة، وبددوا عهد العبودية بنظام المواطنة المتساوية، منهم علي عبدالمغني، صانع الفجر المجيد، وشهيد محراب الكرامة، وأيقونة الثورة، ورمز الحرية، وخلفه الكثير من الشباب الأبطال الذين صنعوا من دمائهم، مشاعل مشعّة على الزمن.

 

صحوة ثورية

بزغت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، عقول شابة من طلبة العلوم والمدارس، وطلاب البعث العسكرية والمدنية، التي شكلت النواة الأولى للحركات النضالية الثورية، وتكوّن منها قادة ثورة 48 وخلايا الضباط الأحرار، التي أسقطت – بعد ذلك – حكم آل حميد الدين البائد، في أيلول 1962.

كان لهؤلاء الشباب الطلبة دور تاريخي في النضال الذي أسدل الستار الأسود على اليمن بنظامها الإمامي، رغم محدودية التعليم ومناهجه الدراسية، إلا أن عودة الطلبة المبتعثين من الدراسة في عدد من الدولة العربية، ساهم في نشر بذور أفكار التحرر والتمدن والتطور والحداثة والشورى والإصلاح.

وحول دور الطلاب المبتعثين، يقول الرئيس الأول للجمهورية عبدالله السلال في كتاب “ثورة اليمن الدستورية”: “لقد شكّل الشباب العائدون معْلمًا من المعالم في مرحلة تأسيس الحركة الوطنية، في نقل مشاهداتهم وانطباعاتهم المخالفة للواقع الذي كانت عليه اليمن حينها، بل مثّل دورهم – أيضًا – في توجيه الحملات العنيفة إلى النظام الإمامي الفاسد”.

مهّد الطلاب الطريق لبناء جسر العبور من ضفة العبودية إلى ضفة الحرية، ونشروا التوعية المهمة في منازلهم ومحيطهم والمناطق التي كانوا ينقلون إليها للتدريس، في أربعينيات القرن الماضي.

وفي شباط 1948 أُعلنت أول ثورة على النظام البائد، ومارس الطلاب حينها مهامهم بكل استبسال، على أمل صناعة وطن جديد ينعم بالخير، وفيه كل الشعب كأسنان المشط لا سيد ولا مسود، والحكم بيد الشعب، فأشعلوا بركان الثورة في صدور الناس بخطاباتهم النارية وقصائدهم الحماسية، ودفعوا حينها ضريبة النضال

فسقط منهم الشهداء كعبدالله محمد الوزير، وكابد منهم السجن كعبدالملك الطيب، ومنهم من فر كأحمد الخازن وحسين عثمان الوزير.

دماء الشباب التواقة للحرية لم تقف عند ثورة 48، بل استمرت في نضالها ونشرها بذور الحرية في أرجاء المعمورة، ومشاركة الطلبة المبتعثين في المؤتمرات لإعلاء صوت الثورة، والانتفاضة ضد الفساد والظلم والقهر الذي اتسم به حكم الإمامة في شمال اليمن.

 

تظاهرات طلابية

ساهمت التحركات الطلابية الشبابية للمبتعثين في خمسينيات القرن الماضي، على تأليب العلاقات الدبلوماسية لتبنّي فكر الثورة اليمنية والتمهيد لها ووجوبها ضد النظام الإمامي المستبد، ونقل المعاناة الحقيقية التي يعيشها الشعب اليمني شمالاً وجنوبًا آنذاك، للعالم أجمع.

وتناغمت هذه التحركات بين طلبة الداخل والطلبة المبتعثين في الخارج، فبعد فشل حركة 1955، وقيام الإمام أحمد بتنفيذ الإعدامات، خرج طلبة مدرسة الأحمدية في تعز بأول تظاهرة شعبية احتجاجًا على قطع الرؤوس الوطنية، وكان هذا أول حراك شعبي في الشارع، ومثّل نقطة تحول تاريخية في مفهوم النضال الوطني.

أدرك الإمام أحمد ونجله البدر خطورة التحركات الطلابية ضد نظامهم في الداخل وفي القاهرة، وتم ترحيل الكثير من الطلبة في نفس العام 1955، إلى دول أخرى لتفريق الشمل بين الطلاب المبتعثين والاتحاد اليمني في مصر.

وبحسب مذكرات الدكتور محسن العيني، وهو أول وزير خارجية للجمهورية، التي نشرت في كتابه “خمسون عامًا في الرمال المتحركة” في زيارة الإمام بدر إلى القاهرة حينها، دعاه الطلاب اليمنيون لحفل تكريم حضره قيادات ومسؤولون مصريون وإعلاميون.

يقول محسن العيني: “في الحفل الذي حضره الإمام البدر وزع الطلاب كُتيبًا بعنوان (آمالنا وأمانينا)، وفيه عرض موجز لطلبات اليمنيين الأحرار في حكمٍ حديث يقوم على المشاركة الشعبية وتشكيل حكومة وطنية والاهتمام بالتعليم والصحة والمواصلات، والمواطنة المتساوية.. وبعد الحفل قام أحمد الشامي، وزير خارجية الإمام أحمد، ليقول لي غاضبًا: هل بهذا تلغون الإمامة؟”.

وفي العام 1956م، بحسب أحد التقارير الصحفية التي أرّخت بعض التحركات الطلابية، شهدت صنعاء مسيرة طلابية حاشدة تضامنت مع الشعب المصري الذي تعرض للعدوان الثلاثي، متأثرة بالمشاعر القومية، وأرسلت الإمامة آنذاك قواتها إلى باب المدرسة الثانوية لاعتقال الطلاب الذين لعبوا دورًا قياديًّا في تحريك المظاهرات.

وكان من الطلبة المطلوبين، علي عبدالمغني الذي عُرف بأيقونة الثورة، وأيضًا محمد مهدي العلفي، وعبدالله المؤيد، وعلي الشيبة، وحمود بيدر، واعتصم الطلاب خارج أحد أبواب صنعاء القديمة إلى أن تم تهريب المعتقلين إلى سعوان، ومن ثم سلموا أنفسهم، وتم سجنهم لمدة 21 يومًا.

 

أيلول الصباح

في مارس 1962، تزامنت التحركات الشبابية الطلابية، في البلاد شمالاً وجنوبًا، وفي الخارج أيضًا، لتحقيق حلم الثورة، حيث شهد جنوب اليمن في عدن أكبر انتفاضة طلابية انطلقت من كلية البنات في خور مكسر لتشمل كافة مدارس ومعاهد المدينة، ومارس الاحتلال البريطاني بحقها القمع الجسدي والنفسي وإصدار الأحكام والنفي، وإيقاف كلية البنات لمدة عام.

شكلت هذه الانتفاضة منعطفًا تاريخيًّا قاد البلاد بشطريه لثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، ضد الإمامة في الشمال والاحتلال في الجنوب، ولاقت صدى واسعًا على مستوى العالم، ومن خلال الوفد اليمني الموحد الذي شارك في المهرجان العالمي الثامن للشباب والطلاب، في هلسنكي عاصمة فنلندا في 62، تم إيصال صوت الشعب اليمني في الشطرين إلى شبيبة وطلاب العالم.

وتلا هذه الانتفاضة في يونيو وأغسطس مظاهرات وإضرابات في صنعاء، طالبت بتحسين التعليم وتغيير المناهج، وحطم الطلاب مبنى وزارة المعارف وأنزلوا صورة الإمام، وتوسعت هذه المظاهرات إلى محافظة تعز، وقامت قوات الإمام بقمعها بقسوة وسجنت الكثير من الطلاب، وأعدمت منهم.

وكانت هذه الانتفاضات الطلابية، مفتاح الثورة السبتمبرية، حيث شكل طلاب المدارس العسكرية والحربية الأداة المنفذة للثورة، وساندهم طلبة المدارس المدنية، الذين تدفقت جموعهم إلى المعسكرات للمشاركة في موجها العارم.

 

“فتيةٌ إن أمروا المجد استجابا”

علي محمد حسين عبدالمغني، القائد العسكري الشاب، الذي بكى لموته زعماء عرب، ووصف بمهندس الثورة وقائدها الفعلي، أحد رموزها وأبطالها وشهدائها، من أبناء بيت الرداعي في مديرية السدة، محافظة إب، ولد عام 1937م، وعاش في كنف الإمامة وظلمها وجورها.

التحق علي عبدالمغني بالكلية الحربية عام 1958م، وسميت دفعته حتى الآن باسمه، وهي الدفعة الثانية في الكلية، وبعد التخرج التحق بمدرسة الأسلحة، وتخرج فيها بعمر الثانية والعشرين، عام 1961م، وانتقل حينها إلى قريته “المسقاة” وبيت الرداعي، هو وعدد من زملائه، وأخبر والدته بأنه مقبل على عمل كبير هو وزملاؤه، وأوصاها أن تدعو له.

شكّل عبدالمغني وزملاؤه خلايا الضباط الأحرار، وكان تنظيمًا سريًّا حينها، تنقل بين تعز والحديدة وصنعاء، وفي ليلة تفجير الثورة اجتمع مع مشايخ اليمن الذين وصلوا إلى صنعاء لمبايعة الإمام وأقنعهم بالمشاركة في الثورة إلى جانب الضباط، وعيّن بعد ذلك عضوًا بمجلس القيادة إلى جانب المشير عبدالله السلال، وعبدالله جزيلان، وعبدالسلام صبرة، وآخرين.

كُلف بقيادة حملة عسكرية إلى منطقة حريب في مأرب لمواجهة الحشود الملكية، التي جاءت بدعم خارجي لتنصيب الحسن بن يحيى إمامًا، واستشهد فيها أيقونة الثورة علي عبدالمغني في أكتوبر 1962، وفقد الوطن شابًّا محاربًا مدافعًا عن الحرية، مقارعًا قوى الاستبداد.

لم يكن عبدالمغني الشاب الوحيد الذي مثل أنموذجًا لامعًا للشاب الثائر الذي غيّر مجرى التاريخ، بل كان هناك الكثير من زملائه الأبطال من الشباب، أمثال القائد عبدالرقيب عبدالوهاب الذي قاد ملحمة ثورية ضد فلول الإمام، والبطل الذي قاد معركة فك حصار السبعين، قُتل غدرًا، بعد أن كبد مرتزقة الإمامة الويل والثبور.

قدم الشباب لليمن ضريبة النضال من أجل الحرية، نخبة من الأبطال الشبيبة، ومنهم خرج أول شهيد في الثورة المناضل محمد صالح الشراعي، أول شهداء الكرامة، والذي أوكلت إليه مهمة اقتحام قصر دار البشائر في صنعاء، فاستقل مع رفيقه عبدالرحمن المحبشي الدبابة، وعند محاولتهما دخول القصر استشهدا، وكانا أول من قُتلا من رجال الثورة.

مثّل دور الشباب الطريق الممهد للثورة، ووقودها التي أوقدت شعلة الحرية، والفاصل الذي نقل اليمن من عصور الاستبداد والظلام إلى عصور النور والتقدم والازدهار، فبهم ترقى الأمم، وبهم تأتي الثورات، وبهم تنتصر الشعوب.

رحم الله شهداء النضال السبتمبري، ورحم شبيبة وطلبة اليمن، الذين فتحوا أبواب التحرير، وقاتلوا عن حق وكرامة الشعب.

….

 

هذا التقرير استمد المعلومات من بعض المراجع والمذكرات والتقارير الصحفية الأخرى، التي دونت أحداث الثورة وما سبقها من تحركات نضالية قادت الشعب لأعظم حدثين تاريخيين شهدهما اليمن، وهما انتفاضتا 26 سبتمبر و14 أكتوبر، اللتان قضيتا على استبداد استمر لعقود في شطري البلاد.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى