رئيسيشُرْفة

في ذكرى 14 أكتوبر: “سردية الثورة، وروح الشباب”

كتب/ ماجد زايد

يتعارض نظام الهيمنة الاستعمارية، الذي يتضمن مزيجًا من العبودية، والعمل الجبري شبه الإقطاعي، أو مصادرة الممتلكات، مع مبدأ التنوير الأساسي القائل بأن كل فرد قادر على العقل والحكم الذاتي. ومع ذلك، تطلب ظهور النظرية السياسية المناهضة للاستعمار أكثر من مجرد أخلاقيات عالمية تعترف بالإنسانية المشتركة لجميع الناس، وهذا ما صنع التغيرات اللاحقة بمسمى الثورات التحررية في المناطق العربية المأهولة بالسكان، كردة فعل شعبية وقومية وأخلاقية تجاه التمادي الاستعماري الغربي في استباحة الأرض والبشر في الجغرافيا العربية، هذه الثورات التحررية بشكلها العام أنتجت فينا رغبة ملحَّة منذ زمنٍ بعيد في محاولة فهم تلك الأفعال الثورية والشعبية المتخذة من السلاح أسلوبها الأوحد في مجابهة المستعمرين، يليها تلك المتغيرات المعرفية والسياسية المحيطة بالفاعلين المهمين في ذات المجتمع اليمني بجغرافيته الجنوبية، بعيدًا عمّا أنتجته الأنماط المعرفية المركزية آنذاك، والتي تصوغ لنا أوضاعنا المعرفية والسياسية اللاحقة بكيفيتها، وتقوم بتنميطها في سرديات، تستجلب لها مختلف الوسائل لتثبيتها في مخيلنا الجمعي، ثم تعمل على ترسيخ إيماننا بها باعتبارها “حقائق معرفية موضوعية”، هذه الرغبة التي تعترينا الآن، هي بالضرورة رغبة العديد من الشباب الذين عايشوا ثورات العقود الأخيرة، بكل شعاراتها ومطباتها وإنجازاتها، سواء أكانوا فيها الفاعلين السياسيين والحقوقيين الذين ناضلوا باستماتة لكي يتحقَّق لهم شيء من دولة الحق والقانون والمؤسسات، أو أولئك الشباب الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية الذين استشعروا حضور وقوة السردية الغربية (الأوروبية للتحديد) التي تحوَّلت إلى مركزية معرفية تفرِّق العالم العربي إلى منتجٍ للمعرفة ومستهلكٍ لها. وهي أيضًا رغبة المفكِّرين والمثقفين في المنطقة العربية، الذين عايشوا أحداثًا مشابهة لها.

ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني كانت النموذج الأهم في الجغرافيا العربية، وهي الفعل الحتمي والطارد للمحتل الجاثم على الأرض والموانئ الحساسة لقرابة 130 عامًا تعرض خلالها اليمنيبون الجنوبيون لشتى أشكال التنكيل والاستغلال، الفعل المسلح في ثنايا الثورة الأكتوبرية كان العامل الأبرز للانتصار المتحقق بعد سنوات طويلة من النضال المتواصل في مختلف الأصعدة العسكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية بمشاركة تيارات المجتمع القومية والإسلامية والقبلية ومعظم الشباب الجنوبيين، وبالطبع بمساعدة النخب الريادية في الشمال، ومن ناحية متصلة ثورة 14 أكتوبر بقيامها وتشاركية انتصارها، أكدت بشكل جازم واحدية الثورة اليمنية في الشطرين الجنوبي والشمالي، ووحدوية اليمنيين عبر التاريخ، وهي حقائق لا تقبل الشك أو الجدال مهما حاول البعض معارضتها، فإرادة التحرر المنتصرة في الجغرافيا الشمالية انتقلت بكامل جاهزيتها لتحرير الضفة الأخرى من الوطن، وهو انتقال مع رغبة التحرير، يرافقه نشوة الانتصار والتحقق الجمهوري لأرض الشمال..

من جبال ردفان انطلقت شرارة الثورة، ومن محافظات اليمن الشمالي توافد الرجال والمناضلون للمواجهة المسلحة مع المستعمر البريطاني، بعد أن كانت ملاذًا آمنًا للثوار، استطاعوا من خلالها أن يرسموا مخططاتهم الثورية بدقة وشجاعة، وبمساعدة رفاقهم من عناصر المد الثوري الشمالي ممن قاتلوا في صفوف الثورة السبتمبرية التي كانت لها الدور الأهم في تفجير ثورة الرابع عشر من أكتوبر.

هذه الأفعال الثورية في المنطقة العربية بشتى أقطارها تعيدنا للتفكير في مرحلة انهيار الامبراطورية البريطانية آنذاك، واعتبار ذلك الحدث مقدمةً لمستقبلٍ جديد إنهارت بفعله سرديات التحيّز الغربي تجاهنا، والأهم أن تلك اللحظة كانت لحظة تحرُّر حقيقي من الرعاية الاستعمارية التي رأت في الشرق “مستودعًا للخطورة والمفاجآت، وبركانًا إذا انفجر فإن حممه تصل الغرب، وهي تحرق كلَّ ما تواجهه.. بالمناسبة، ما نراهن عليه اليوم ليس التصدي للمؤامرات الاستعمارية وتحقيق الاستقلال التام عن كل أشكال الهيمنة الخارجية علينا، بل كذلك التخلص من وضع الهشاشة وحال قابلية الاستعمار والانتقال إلى مرحلة الندية والاستئناف السيادي.

أخيرًا..

هذا نموذج من ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيد، نموذج يشرح الفعل الشعبي وقابليته المنبعثة من القاع المجتمعي للشباب في اليمن الجنوبي، هذا الثائر كان قبل الثورة آنذاك شاعرًا غنائيًّا فرائحيًّا غزليًّا متمرسًا، كان راقصًا عبثيًّا عدميًّا عاطفيًّا صعلوكًا هائمًا متروكًا ووحيدًا بلا مبالاة، لكنه بعدما أعلنت الثورة عن صرختها الأولى ونادى الوطن أبناءه هيا يا رفاق، نهض من كبوته وعاطفته وتراخيه متقدمًا يناظل في وجه الاحتلال البريطاني البغيض، خرج شاعرًا بطلًا في أكتوبر العظيم، كان صوت الثورة ونثرها الرنان، واليوم صار منسيًّا عن الثورة..

الشاعر الغنائي الثائر والمجهول أحمد بو مهدي ابن المكلا وقائد مفردات الثورة الشعبية في الجنوب..

من منا لا يعرف أغاني اللحجي والرقص الفرائحي السريع؟! من منا لا يعرف هذه الأغنيات الخالدات من هويتنا وتراثنا:

“الا يا طير يا الأخضر”

“وأين بلقاك الليلة”

“لقيته يا ماه ذي سالت دموعي عليه.. ليته يجي عندنا”..

هذا ما كان يكتبه أحمد بو مهدي قبيل الثورة وبعدها، ولكنه في زمن الثورة ضد المستعمرين آنذاك خرج من دائرة الغناء والأفراح والعواطف الى ميدان الثورة والمفردات المقاتلة.. كان واجبًا مقدسًا للوطن والشعب..

كتب في يومه الأول من الثورة إلى الشعب قائلًا:

بلادي إلى المجد هيا انهضي

وسيري بعزم الشباب الأبي

بدأنا كفاح البناء فاهنئي

لينعم شعبي بعيش هني

إلى أن قال:

أمامك يا شعب دربٌ طويل

علينا إذا لم نصنع المستحيل

جميعًا سنهتف لا لن نميل

ونحيا على رغم أنف العميل

إنه نموذج استثنائي عن روح الشباب والثورة، وعن تقديم الوطن على الذات، وعن الانتماء الحقيقي للشعب والثورة والغايات العامة على حساب النجاحات الشخصية الضيقة، هو حكاية بطولية عن شاعر أخرج المواطنين خلفه ثائرين بعد أن كان يخرجهم للرقص والمناسبات، هو الأثر والانتماء ذاته، وهو ما نتحدث عنه دائمًا، وهو نموذج عن ثورة تجاوزت حدود الأضواء والمصالح والامتيازات المبتذلة إلى شعب يسير مع ترانيم الغناء والثورة إلى النصر والاستقلال.

إنه العظيم: أحمد بو مهدي..

كتب أخيرًا إلى رفاقه وشهداء ثورته بعد تتويجها:

فهيّا اكتبوا النثر والا النشيد

فهم حطموا القيد يا فرحتي

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى