رئيسيشُرْفة

وجدي الأهدل: كاتب عظيم، ومثقف عضوي

كتب/ ضياف البَرَّاق

بمنتهى الشغف والاستمتاع ها أنا ذا أقرأ فصلًا مثيرًا من رواية “فيلسوف الكرنتينة” للسارد اليمني البارع وجدي الأهدل، وفي الفترة الماضية القصيرة قرأت للكاتب ذاته رواية “حمار بين الأغاني”، ثم رواية “بلاد بلا سماء”، وقبل ذلك قرأت مجموعته القصصية “ناس شارع المطاعم”، وأمس فرغت من قراءة روايته العظيمة “أرض المؤامرات السعيدة”، أما روايته الأولى “قوارب جبلية”، والتي أثارت داخل البلاد جدلًا هائلًا عندما صدرت عن دار عبادي للنشر عام ٢٠٠٢، في صنعاء، فقد قرأتُها على نفَسٍ واحد في وقت قصير، والحقيقة أنني أحرص دائمًا على قراءة كل ما يكتبه قلمه العظيم، وأستمتع بهذا بكل تأكيد!

يكتب وعينه على الحقيقة، يقاتل البشاعة بجمال ضميره الأدبي الكوني، يُبدِّد الغيمات الكاذبة التي تستحوذ على مساحات شاسعة من حياتنا، يفضح كل ما هو زائف في واقعنا المليء بالجنون، يُخلخِل قواعد الظلام والظلم، يُعرّي الأوهام والرذيلة، يكشف أساليب وأكاذيب تلك العصابات الظلامية الشريرة المتسلّطة على مصير الناس البسطاء، ثائر تنويري شجاع جدًّا في مقارعته الأباطيل، غَنيّ بالحكمة والشفافية والخيال الواسع وحس التهكُّم وروح التفاؤل، مُتبحِّر في الفن والثقافة والأدب، ويتخطى المألوف دائمًا، ولديه سمات رائعة عديدة. 

ما يزال وجدي الأهدل يكتب بشغف وشجاعة وعبقرية ويتطلع بكل اهتمام “إلى انتشار الثقافة في بلادنا، افتتاح المئات من المسارح ودور السينما والمكتبات العامة والمؤسسات الثقافية” ذلك لأن “مشكلة اليمن ثقافية، وليست سياسية”، أما السياسة وبالأخص في اليمن إنما هي “رحى لا تكف عن الطحن”.

هذا الرجل الذي يُقاوِم ولا يساوِم أصبح بلا ريب غنيًّا عن التعريف، وأمّا السر الحقيقي وراء ازدهاره الأدبي على هذا النحو اللافت، فهو إتقانه الفني لما يكتبه، والإنسان يصعُب عليه إتقان عملٍ لا يستهويه لدرجة الاستغراق والتماهي، أمّا إذا كنا فعلاً نبحث عن الجودة والمتعة والفائدة، فلنقرأ جميع أعماله، ولن نندم البتة.

هو الذي يقترب دائمًا من الواقع المسكوت عنه، والأحرى أنه يلج إلى صميمهِ، فينقدهُ نقدًا لاذعًا ومُدهِشًا، يكشف المستور، ويفضح ما يُراد التعتيم عليه، ومن هنا تنبع أهمية كتاباته.

شخصيًّا، أقدّر وجدي الأهدل أعظمَ تقدير، وأطالع أعماله الفنية بحماس وشهية مفتوحة؛ للاستفادة منه في مجال الكتابة الأدبية، وكلما زادت قراءتي لما يكتبه، عَظُمتْ منزلتُهُ عندي، واتسع شغفي لقراءة المزيد من نتاجاته البديعة الزاهية بالفكر والإثارة الممتازة، والنقد الاجتماعي العميق، والجمال اللغوي الباهر، ولكن مَن ذا الذي قرأ لهذا الأديب ولم يُغرَم بقلمه! 

إذا خلا فنك من انحياز صادق للغلابة، فلا طائل منه، وإذا خلا من عنصر المتعة وهدير الدهشة فإنه عديم قيمة أيضًا.

ومع وجدي الأهدل على الأخص، نجد فنًّا منحازًا للغلابة، ويشتمل في نفس الوقت على تلك العناصر الفنية اللازمة في فلسفة الرواية، إنه قادر في كل مرة على إمتاعك، وإدهاشك، وأنسنة وعيك وضميرك، ويزرع فيك حُبَّ الإنسانية، لذلك يزدهر الأهدل على الدوام، روحًا وفكرًا وسردًا، أدبيًّا وإنسانيًّا. هذا ليس مدحًا ولا فيه مبالغة، إنما شيء من حقيقة هذا الكاتب الفذ.

المرأة في أدب الأهدل ليست مشوهة كما هي صورتها في وعي هذا المجتمع، إنه يرسم لها شخصية عصرية جميلة، يمنحها قدرات غير عادية، ومواهب عديدة، هكذا يحررها من قبضة الماضي الكريه، فيعيد لها اعتبارها الذي همّشه القطيع الذكوري، الذي يزدري المرأة ويأتي بمبررات واهية لا يقبلها المنطق أبدًا، والأهدل لا ينسى أن يدافع عنها من جميع الجهات، ويفضح معاملة المجتمع السيئة لها، ففي روايته “حمار بين الأغاني” نحب العزيزة “ثائرة” تلك الشابة المستنيرة المتمردة، دارسة التاريخ، الرائعة الطيّبة، ونعيش معها كل التفاصيل التي عاشتها هي، ونتألم معها بسبب الكوابيس الليلية التي كانت تجثم على صدرها، فتفزعُها من النوم، وتصيبها بالقلق والاضطراب والكآبة، ونبكي عليها حين يتم مقتلها بطريقة واضحة وغامضة في آن معًا، وفي روايته “بلاد بلا سماء” نحب الفتاة طالبة الجامعة “سماء ناشر” نتعلم من ذكائها، وطيبة مشاعرها، ونكره ما تكره، ونحب ما تحب، ونبكي عليها في آخر المطاف، كذلك أحببت “أشجان” بطلة قصته القصيرة “حلاوة الحب” التي كما يصفها الأهدل “بشرتها بيضاء كنور القمر، نحيلة الخصر، وافرة الكفل، أُقدر عمرها بثلاثين عامًا. ورغم جمالها وميزاتها الأخرى مثل كونها تحمل شهادة جامعية وموظفة براتب شهري، فإنها لم تتزوج بعد.. والسبب أن اليمنيين عندهم “عقدة” من الزواج بالجامعيات.. ويعتقدون أن المرأة كلما كان مستواها التعليمي أدنى كلما كانت زوجة أفضل!”.

أجل، الفساد الهائل الذي تحجبه عنا مناورات السلطة، ويتستر عليه إعلامها القذر، يكشف عنه وجدي الأهدل في أدبه السردي المميَّز، كشفًا فريدًا من نوعه.. مرة قال الأهدل إن مهمته الأساسية إنما هي فضح واقع الفاسدين، وهو لا يكذب إذا قال شيئًا من هذا القبيل، ونحن لا نشك أبدًا لا في نزاهته الأخلاقية، ولا في عبقريته الأدبية، ولكن دفاعه الأعظم والأعمق عن كرامة المرأة المضطهدة يتجسد بشكل كثيف في روايته “أرض المؤامرات السعيدة”، وهي الرواية الجريئة، البالغة الإتقان من جميع النواحي، الرواية التي تحكي لنا مأساة وعذاب الأنوثة في اليمن، وبالتحديد قضية زواج القاصرات، كما أنها تكشف للقراء في الوقت ذاته عن الخيوط المخفيّة للعهر السياسي الذي تمارسه الدولة بحق الوطن وأبنائه المقهورين والمسحوقين، ونحن عندما نقرأ هذه الرواية بالذات، ونستوعبها، ونعيش كل تفاصيلها حتى آخر سطر منها، نشعر برغبة فورية شديدة للاِنحناء أمامها، تمجيدًا لكاتبها العبقري!

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى