رئيسيشُرْفة

أيوب والذاكرة

كتب/أصيل إيهاب

تجلس خالتي التي زارتنا من الريف في المقعد الخلفي. لا يخفف السائق السرعة عند المطبات أو الحفر الصغيرة، وينعطف بطريقة تصيبنا جميعًا – وكنا ستةَ أشخاص – بالغثيان.

كردة فعل، تضع خالتي غطاءً على عينيها، وتحاول ألّا تفكر في الطريق حتى نصل. مع الوقت، تنفذ منا الأحاديث، ويسيطر الصمت على السيارة، حينها وحده أيوب يستطيع كسر الصمت شاديًا: أنت روحي، أنت ما لملمته، من منى العمر وأحلام السنين.

رفعت خالتي رأسها وهمّت تحدثني: أيوة يا ولدي شغّل أيوب (يبعد الغاثي).

وفي كل مرةٍ يسيطر الصمت، تطلب أن نفتح أغنيةً جديدة لأيوب.

 

الفن في تكوينه الأصلي، انعكاس لجغرافيا المكان وتفاصيله، وخلال التكوين الاجتماعي الفني للمجتمعات قبل العولمة، لم يكن لساكن الجبل أن يتغنى بدفء الساحل، وبتنوع الأجناس والوجوه، كون تفاصيل حياته لا تخرج من الإطار المحدود لما يرى، وما يشعر ويشاهد.

إن كان الإنسان مخلوقًا من ماء وطين، فالفن مخلوقٌ من تماهي مكونات الأرض كاملة، إنسانها وأشجارها وماءها ومشاكلها وشكل نظامها السياسي وصراعاتها واستقرارها. وفي هذه اللحظة من الزمن، ما زال الإنسان – ولآخر مرة – يحمل إرثه وذاكرته الصوتية والبصرية أينما حل وذهب، فلا يمكن للبريطاني أن يستوعب ما يشعر به اليمني حين يمر بأغنية سمعها في صباه في مقاهي حارته الشعبية.

ولا يمكن لليمني أن يستوعب شعور الكولومبي وهو يستمع إلى موسيقى الكومبيا، وإن استلذ بها فهي لا تحرك جوارحه مثلما يحركها الآنسي أو أبو بكر سالم. في الحقبة الماضية مما عاشه اليمني، وجد أرضه التي زرعها، وأشجانه التي لا تفارقه مذ أن تختفي أطلال قريته، وبقايا العائلة، وموسم المطر والزراعة في ما كتبه الفضول، وما غناه أيوب طارش.

حينما تحدثني أمي عن أيوب، لا تحدثني عن اللحن أو المقامات الموسيقية، تحدثني عن ذاكرتها الخضراء، عن أشجار القرية التي أتت منها، وعن عصا جدي، حذائه الملمع، ووجهه الذي رحل قبل أن تصل الكهرباء، أو خطوط الهاتف. وحينما تتحدث جدتي عن الوادي الذي حملت فيه الماء مع النجم في ساعات الغسق، تتذكر معه أحمد عبيد القعطبي ولحن يا نسيم السحر.

إن إخضاع موسيقى هذه الحقبة لنقد موسيقي يقيس جودة اللحن والأداء والتوزيع، أمر تسقط أمامه أغانينا لبساطة مكونها الموسيقي، ويُظلم فيه رواد هذه المدارس مقارنة بأي فنان من فناني هذا الجيل الذين تتلمذوا على التنوع الموسيقي، وأعطتهم العولمة ميزة الوصول اللا محدود. لكنها ذاكرة اليمني بقصة الحب الأولى التي عاشها، بنشيده الوطني الذي حفر في وجدانه اللحظات، بما يحمله من أشجان ومشاعر لا تفارقه أينما حل وأزهر، ولا تهمه جودة الأغنية ومكونها الموسيقي طالما تغذي روحه وسنواته.

ومثلما يرتبط بنا الأكل الشعبي، يرتبط بنا الغناء، وكأن موائدنا تكونت مما طبخته أمهاتنا من طعام، وما سمعنه من أغانٍ في المطبخ. يتداخل الفن ليصبح أحد المسلّمات للإنسان، ما إن يذكره أحد الناس بسوء يتم الهجوم عليه بصورة عمياء، وتثأر في نقده حفائظ العامة ويشعرون أن الإساءة للفن الخاص بهم، إساءة لذواتهم.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى