عبدالرحمن الزراف
بعد فشل ثورة 48 والإمام الجديد في ذروة بطشه على وقع نشوة النصر وحمّى الثأر للإمام القتيل.
والرؤوس تتطاير، والناس يُساقون إلى السجون بالشبهة مصفدين، والخوف يعم البلاد من هذا السفاح المنتقم الذي كان مجرد ذكر اسمه كافيًا لبثّ الرعب في القلوب “أحمد يا جناه”.
كان هناك شاعرٌ ضريرٌ لم يتجاوز العشرين من عمره في سجن “القشلة” بذمار يُدعى “عبدالله صالح الشحف البردّوني”.
من فم الوحش يكتب ذلك الشاب قصيدته إلى الإمام أحمد “فتوى إلى غير مالك” إلى الإمام أحمد من طالب معرفة
يستهل القصيدة بهذا المطلع الانتحاري المتهكم:
لن ترحم الثوار والهتافا
هلا رحمت السيف والسيّافا
بعد هذا النفي القاطع والسخرية الدامية، التي يستحثّ بها الإمام إذ لم يرحم من يراهم أعداءه، أن يرحم السيف لكثرة ما احتزّ من أعناق، والسيّاف لطول ما هوى به!
ويذكّره بأخلاق الفرسان، أولئك الذين إذا انتصروا عفوا ورحموا:
أوما على المِقدام يوم النصر أن
يرعى الشجاع ويرحم الخوّافا
ثم يتساءل عن قيمة هذا النصر غير المتكافئ، وجدوى هذا الإسراف في الدماء:
أيكون ما أحرزته نصرًا إذا
قاتلتَ أجبُنَ أو قتلت ضعافا
ثم يأخذ التقريع الساخر إلى مستوى أعلى ويسأل
أسمعت عن شرف العداوة كي ترى
لخضمِّ تقطيع الرؤوس ضفافا
من لم يسمع بهذا الشرف، فكيف سيثنيه عمَّا يفعل ويجعله يرى نهاية هذا التقتيل وساحل دمائه.
لقد كان الشاعر الشاب يدرك هول ما يقترفه، وكارثية ما هو مقدمٌ عليه، وهو يرمي بنفسه إلى فم الوحش:
سأحثّ اأسئلتي إليكَ وإنني
أرمي بهنّ وبي إليك جزافا
هذه المجازفة الهائلة، والمغامرة التي يرمي بها الشاب السجين نفسه في الهلاك المحقق.
ليست قصيدة لكنها عملية فدائية يدرك الشاعر خطورتها وما قد يترتب عليها:
هاكَ القصيدةَ والمُقَصّدَ سلْهما
إن تبتغي، أو دعهما استخفافا
ويواصل أسئلته التي يستفتي بها الإمام أحمد، كما في عنوان القصيدة:
سأظلّ أسأل أحمدًا لا مالكًا
كيف استطبت بأهلك الإجحافا
فدخلت صنعاء فاتحًا وقطوفها
أشهى إلى من جاءها مصطافا
يذكره هنا بروابط الالتقاء، فهؤلاء الذين يحزّ أعناقهم هم أهله، وهذه المدينة التي يستبيحها كفاتحٍ وغازٍ هي بلاده.
بعد ذلك تأتي أسئلة الفتوى الأشد خطورة:
هل قال قَتْلُ أبيك: ترقى بعدهُ
تُفني وتسجن باسمه الآلافا؟
أتَركْتَهُ بالأمس يلقى قتلهُ
كي لا ترى للأمر فيك خلافا؟
يشير البردّوني هنا إلى شروط الإمامة في المذهب الزيدي؛ التي لم تكن تتوفّر أو تجتمع في أحمد بن يحيى حميد الدين، والتي ليس من بينها الوراثة، ويتساءل هل طلب الثأر ليس سوى حجة وغطاء لطلب العرش.
أسرفتَ في التقتيل، يهزمُ نصرَهُ
مَن يستلذُّ القتلَ والإسرافا
حتى قطعتَ مع الرؤوس ذيولها
هل سوف تقطع بعدها الأردافا؟
ماذا ستصنع حين تصعدُ أرؤسًا
تلك التي لمّا تزل أكتافا؟
هذا القتل الذي يرد بصيغة المبالغة، والذي تحول إلى متعة لا علاقة لها بالمعركة والانتصار فيها.. ما الذي يبقيه من شرف النصر ومعناه!
ثم يتساءل متهكمًا من شهوة قطع الرؤوس هذه، هل سينتقل إلى الأرداف بعد أن تفنى الرؤوس، وماذا عن الأكتاف التي لم تنبُب رؤوسها بعد؟!
ثم يعود إلى السيف مرةً أخرى، هذا الجماد الذي أتعبته كثرة القتل، وأرعبته ألوان الدماء:
أضنى دمُ الأعناق سيفَكَ هل روى
كيف اقشعرَّ مِن النجيع وخافا؟
الشاعر لا يستعطف الإمام، فحتى السيف قد غسل يده من أيّ أمل، يمكن أن تُستدر به شفقة الإمام:
لو كنتَ لاستعطاف أيِّ مؤمِّلٍ
أهلاً، لذاب حسامك استعطافا
ثم يبرز المفارقة وهو يقارن سلوك السيف هذا بسلوك الإمام:
أيُقال: عفَّ ابنُ الحديد عن الدِّما
وابن الأئمة لا يُطيق عفافا
أيّ شجاعة امتلكها هذا الشاب السجين ليستفز الوحش بأكثر ما قد يغضبه، وهو يرى الموت بعينيه الثاقبتين:
عريان إلا من قميص ولادةٍ
عانٍ وقلبُ الشعر فيه معافى
أعمى وزرقاء اليمامة حيّة
فيه ترى من سربة الأحقافا
يقول البردّوني في مقدمة قصيدته التي نشرها في ديوان “جواب العصور”:
أرسلتها للإمام أحمد ووددت قطع رأسي، وأمّلت في هذه القصيدة خيرًا
ما جاء بابك راجيًا لكن أتى
عمّا سيأتي سائلًا ملحافا
ينجو البردّوني من الموت، وتمر الأعوام، وفي عام 1958 يرسل البردوني ديوانه “من أرض بلقيس” للمشاركة في مشروع الـ”الألف كتاب”، وفيه قصيدة فتوى إلى غير مالك وصادف ذلك عودة الإمام يحيى متعطشًا للدماء.
فحرص علي الجندي المكلف بمراجعة الديوان على استبعاد القصيدة خوفًا على الشاعر، ونشرها البردوني لاحقًا في ديوان “جواب العصور”.
بعد فشل ثورة 48 والإمام الجديد في ذروة بطشه على وقع نشوة النصر وحمّى الثأر للإمام القتيل.
والرؤوس تتطاير، والناس يُساقون إلى السجون بالشبهة مصفدين، والخوف يعم البلاد من هذا السفاح المنتقم الذي كان مجرد ذكر اسمه كافيًا لبثّ الرعب في القلوب “أحمد يا جناه”.
كان هناك شاعرٌ ضريرٌ لم يتجاوز العشرين من عمره في سجن “القشلة” بذمار يُدعى “عبدالله صالح الشحف البردّوني”.
من فم الوحش يكتب ذلك الشاب قصيدته إلى الإمام أحمد “فتوى إلى غير مالك” إلى الإمام أحمد من طالب معرفة
يستهل القصيدة بهذا المطلع الانتحاري المتهكم: