كتب: عاصم الشميري – رئيس التحرير
بعد ثمان سنوات من الغياب قرر الشاب اليمني المغترب عبدالملك السنباني العودة إلى اليمن.. يدفعه لذلك الشعور بالحنين لوطنه وأهله، والشوق لوالدته التي تتلظى تحت وطأة الانتظار طيلة هذه المدة، وكأيّ مغترب جمع ما استطاع حصاده من مال في الغربة، وعاد تحمله اللهفة لوطن لطالما كان حلم العودة إليه شغله الشاغل..
“احجزوا لي زوة عندكم يا أصحاب اليمن”، كلماته المفعمة فرحًا قالها في فيديو صوره، يتحدث به في مطار دبي قبل قدومه إلى مطار عدن، متلهفًا تسبقه مشاعره للعودة، ويجره الشوق للأرض.
تستمر رحلته ليصل إلى مطار عدن.. وليواصل رحلته استقل سيارة كان استأجرها لتنقله من عدن إلى صنعاء، وفي سبيل الحنين وتحقيق حلم العودة، كان عليه أن يحتمل ذلك العناء، كما هو حال الجميع في هذا الطريق الطويل.. لكن عبدالملك لم يكن يعنيه شيئًا من ذلك، فقد طغى الحنين في قلبه لأحبته على كل عناء، كان كل ما فيه يصبو إلى حيث من ينتظره في موطنه.
فترة اغتراب الشاب عبدالملك عن بلده (8 سنوات)، كانت هي فترة عمر الحرب في بلده…!!
الحرب التي لم يكن عبدالملك يدرك ويتخيل الصورة البشعة والحجم الهائل من الدمار الذي أحدثته في كل جوانب الحياة.. لم يكن يدرك أن كل شيء تغير، وأن كل شيء كان قبل رحيله قد اختفى، ولم يعد هناك سوى الموت حاضر في كل ذرة رمل لهذا الوطن..
يستمر عبدالملك في رحلته إلى صنعاء، وفي طريقه استوقفته نقطة، لتحيل رحلته إلى اتجاه معاكس، لم يكن يخطر على بال.. (إنه حوثي، لا شك في ذلك)، يقول مَن في هذه النقطة!!.. وكل ما في الأمر أن تهمته هو حيازته للنقود الدولارات حصيلة غربته التي سخر لها جهده ليعود إلى بلده، ويحيا فيها “ملكًا”، كما يفعل ويفكر، ويحلم جميع الشباب المغتربين..
اتهموه بأنه قيادي حوثي، و”بهذلوه”، اقتادوه إلى منطقة غريبة وقتلوه، أعدموه على طريق السفر، وقالوا بنبرة انتصار، لقد قبضنا على قيادي حوثي كان يحاول الهرب، تتبعناه، ولاحظنا حركاته المشبوهة؟!!..
ربما الارتباك الذي بدا على عبدالملك كان دليلهم الوحيد للاشتباه به..
لم يكونوا يعرفون أن الارتباك نتاج طبيعي ينال منا جميعًا في هذا الطريق، وشكل الخوف هو شكلنا في هذه الرحلة التي نرى الموت على جنبات طرقها.. ونحن الذين عايشنا وما زلنا نعايش الحرب بكل ما فيها.
إنه الارتباك والفزع من نقاط الموت، نقاط تقابلنا في الطريق، وأسئلة ترعبنا كل ما قررنا السفر والعودة أو الخروج من البلاد!
فكيف بمغترب كـ”عبدالملك” الذي ربما وصلته الحرب سماعًا، ولم يستوعبها بكل ما فيها، وما أحدثته.. وهو الذي قضى فترة غربته في بلد يتسيدها القانون، بلد الحرية والحقوق والمساواة.. حيث كانت هذه المدة كفيلة لأن تصبغه بالأمان، وتشعره بالسكون، وتمنحه الهدوء.
ندرك جميعنا جيدًا أن لا تهمة، وأن تهمته الوحيدة كونه من اليمن، وأن شوقه لبلده هو من دفعه لأن يقع فريسة بين مخالب الموت على يد من ناداهم، أبناء بلده، بقوله: (احجزوا لي “زوة عندكم” يا أصحاب اليمن).. فكان منهم أن حجزوا له موتًا دون ذنب اقترفه..
وحنينه لوطنه هو من دفعه لأن يقع فريسة وحوش بشرية لا تعرف شيئًا من الإنسانية، ولا تمت لها بصلة.. وحوش تجردوا من الأخلاق والقيم والرحمة، فجردوه من كل شيء، ولم يبقوا حتى على روحه.
هذا اليمن مُرّ بطعم بكاء أمك يا عبدالملك.. هذا اليمن حزين بحجم وجع محبيك.. الجميع فيه حزينون، لكنهم يشعرون بغضب كبير تجاه من قتلوك وقتلوا الكثير من الشباب، تجاه من زرعوا لنا الموت على قارعة الطريق.. ورسموا الخوف على درب الحياة، وكتبوا الوجع الأبدي قدرًا علينا جميعًا.. هذا اليمن، وهذه الحرب التي كنت وغيرك من خيرة الشباب كـ محمد الإقليم، عمر باطويل، وأمجد عبدالرحمن.. وكثيرين كنتم وقودها.
يخيفوننا من بلادنا، ويشعرون بالانتصار بعد قتلنا، يجعلوننا نخشى العودة ونشعر بالرعب دائمًا في طرق السفر، نرتبك أمام أي نقطة عسكرية، وعند السؤال، وبعد السؤال، من ينقذنا من هذا الموت؟!
من يمنحنا الطمأنينة.. افتقدنا بلدنا.. عائلاتنا.. افتقدنا الجميع هناك في اليمن التي يقتلها منفذو الإعدام في كل نقطة عسكرية!
أخيرًا.. القضية تعنينا وتجسد معاناتنا جميعًا، لكننا وفي كل الأحوال لن نجعلها قضية تفرقنا، فهي أولاً وأخيرًا قضية وطن.. “وطن” أصبح الوجع فيه أكثر ما نتشاركه، لأننا جميعًا كشباب ومجتمع دون استثناء، نعاني ونعاني ونموت.
رحمه الله تعالى تغشاه إن شاء الله