كتب: مـاجد زايد
ها نحن ذا، نزرع الأرض بشبابنا، ونصنع المستقبل بأجساد موتانا، لنكتب تاريخًا مخيفًا، نحمله بعربات يجرها الموتى.
الشباب اليمنيون الذين قُتلوا في حرب سنوات فائتة، المرغمون منهم على وجه التحديد، كان ينبغي أن يظلوا أحياء.. ولعل هذا ما خطر ببالهم حينما وجدوا الأتربة تنهال فوقهم في المقبرة.. لماذا بحق السماء يموتون؟! ما شأنهم بالموت؟! وماذا كسبوا من كل هذا العناء؟! هل كانوا يريدون الوقوف أمام فوهات البنادق حينما اخترق الرصاص أجسادهم؟!
لا أكاد أصدق هذا.
لا أحد منهم كان يريد الموت، حقًّا.. لا أعتقد أن هناك من يحب الشهادة، لكنها عواطف مؤقتة بفعل عوامل مؤقتة تنتهي بمجرد ذهاب مفعولها. كل شيء كان في سبيل لقمة العيش، أو طريقًا بديلاً عن عجز تام في خيارات السبل الأخرى.
الذين يسقطون في المعارك هم مجرد ضحايا لحربٍ ساقتهم إلى طريقها الإجباري.
ليسوا أطرافًا في الحرب.. كلا، فمعظمهم مجرد باحثين عن لقمة عيش معدومة، وهم إنْ ماتوا يموتون أبرياء دون ذنب.. هم الضحايا الأكثر بؤسًا؛ لأن حياتهم أرغمتهم على الذهاب، كنتيجة حتمية لِما فعله الساسة يوم أن تركوا الدولة وفروا.
أولئك المحصورون مجازًا بين مسمار الجوع ومطرقة الضياع، ستجدهم يقاتلون في كلا الجانبين، مع الطرفين، لا يهتمون مَن يكون معه الحق، جُلّ همهم متى يدفعون رواتبهم القليلة؟! هم يقولون هذا كل يوم: ادفعوا لنا أرزاقنا، فأهلنا وبيوتنا ينتظرون!
هؤلاء، ومَن هم في أعمارهم، ليسوا إلّا مراهقين، أو على الأكثر شبان لهم زوجات وأطفال صغار، وربما هم حالمون يحبون أن يخرجوا مع عيالهم في سيارة صغيرة إلى رحلة ريفية، والريح تعبث بهم.
لا بد أنهم فكروا في كل هذا حينما وجدوا جنائزهم تسير إلى نهايتها، ولا يهم بعد هذا إن كانوا أمواتًا أم لا.
هذا من وحي “أروين شو” في ثنايا الحروب والموت.. الحروب العالمية التي تساءل في زمنها ذات يوم: ماذا يحدث لو قام القتلى واعترضوا على استمرار المجزرة؟! هل كانوا حقًّا سيختارون الموت مجددًا؟ أو سيصرخون لا نريد أن نموت؟!
لا يجب أن تتوقف صرخة الرافضين لموت الشباب الأبرياء. هذه مسؤوليتنا. يجب أن يستيقظ الموتى، وليستيقظ الأحياء أيضًا.
أنموذج عابر
بشار محنون (17 عامًا)، شاب صغير قُتل في جبهة الحرب بمأرب، مع طرفين، أحدهما قتله بالتغرير به، والآخر قتله في ساحة المعركة، ليأتي طيران الطرف البعيد ويطمس آثار حكاية ملطخة بالدم والمأساة.
بشار، ابن مديرية باجل الطيبة والبسيطة، ذهب للحرب وهو لا يدرك ماهيّتها وما يحدث فيها.. مثله يفعل الآلاف ممن هم في ذات عمره، كعاقبة لنشوة الذهاب إلى الموت دون إدراك.. نشوة الاكتشاف والرغبة بالبطولة. إنها لحظة مؤقتة، ومتزامنة بين ذروة القات والأغاني الحماسية، وهي فخ لا يدركون عاقبتها إلا وهم يموتون.
مأساة محفورة ومتكررة لا يعرف تفاصيلها البعيدون عنها وعن ضحايا الحرب ودوافعهم البريئة.
هؤلاء المراهقون الصغار يذهبون للقتال مع طرفي الحرب دون إدراك أو إرادة. تلك حقيقة وخلاصة، إنهم مجرد ضحايا، ونحن نتحمل عنهم العار والكارثة.
المراهقون الصغار يموتون كل يوم بالعشرات، بل بالمئات.. لقد مات الكثير منهم، وما زال الآٔخرون يعدون الخطى للذهاب في ذات الطريق، طريق الموت والمصير الإجباري.
لم تنتهِ الحرب، ويبدو أنها لن تنتهي، ولن تترك من تبقى في حالهم، ما دمنا صامتين. نحن أمام هذه الجنائز المحمولة والصور البريئة ملعونون لأننا صامتون.
حرب ودمار
كل شيء جميل دُمِّر خلال سنوات الحرب، ومعها تغيرت أمنيات الناس وأحلامهم، وجاءت عوضًا عنها عصابتان متقاتلتان تروّجان للموت في سبيل الله والوطن، الله الذي يدّعي الطرفان تمثيله في الأرض، وهذا الوطن الذي اتفقا على تدميره.
صرنا كومة كبيرة من شعب مبيوع.
ماذا أيضًا؟!
لن تصدقوا لو أخبرتكم بأنهم لا يكتفون.. ما زالت الحرب قائمة، حقيقة لا تتوقف عن تدمير رؤوسنا.. في الريف اليمني لم يتبقّ الكثير من الشباب، القرى فارغة، والمدن ترفع صورهم وملامحهم القديمة يوم كانوا هناك، يوم كانوا عاديين.
بعدها غادروا موتى منسيين إلا من صور في الطرقات، وفي خيالات أمهاتهم.
ذات يوم كتب “ألبير كامو” حكاية عن رجل وحيد ذي غريزة عدوانية، كان يستدرج الطيور والقطط عبر إطعامهن في باحة منزله، وعندما تتجمع حوله مطمئنة إلى كرم الضيافة يقوم بالبصق عليها.
هو أنموذج عن رغبة السحق والتدمير في خيال كل قائد يستقطب الفقراء للقتال في معركته، تكون الكراهية قد تعمقت داخله، فأصبح لا إراديًّا شخصًا ممارسًا لتصرفات الشر، ميالًا للعدوان وازدراء الآخرين. أصابه نفوذه وفظاعات تجاربه السابقة بجموح غريزي تصفوي لكل من عداه.
هؤلاء هم قادة الصراع المسلح دون أهداف وطنية، وهذا ما يحدث للفقراء بعد استدراجهم، حتى وهم يتضرعون في عباداتهم، يناجون خالقهم وينكسرون في ساعات السحر، يقولون غاياتهم ويبكون لنيلها.. يسردها سيف الرحبي على ضفاف ملاحم الفجر وأعشاش الصيف الباردة.. يقول في ذروة التضرع:
أيتها الكراهية
امنحيني مزيدًا من هباتك وحنانك كي أستطيع إبادة هذا العالم!
لقد انتهى كل شيء من بعدهم!
ما جدوى الحروب إذن؟!
هذه الحقيقة مستمرة، أطراف الحرب ما زالوا يستقطبون الآلاف من المقاتلين، من الشعب الفقير، من الفقراء أنفسهم، من الشباب، من العاطلين عن العمل، من المحبطين التائهين بلا أمل، للذهاب بهم بعيدًا بعيدًا حتى حتفهم هناك وهنا، وفي كل مكان.. الأطراف السياسية، بل الأطراف المتحاربة بالشباب. أما السياسة، وبالرغم من كل شيء فلديها أخلاقها، وبعض من ملامح عادلة، لكنها منسية وغير موجودة. أما حرب الجماعات والمذاهب والطوائف فقذرة وأنانية، هي بالمجمل لعنة تعصف بالمساكين.
هي إذن صراع سلطوي وتجارة بالفقراء وكل مبرراتها وغاياتها مجرد ترهات. ومن يتم استقطابهم وتجنيدهم من الشباب، خصوصًا الفقراء منهم، فإنهم لم يكونوا قبل التعبئة والتحشيد والتطييف إلاّ متعلقين بالحياة، ومحاولين الحصول على رزقهم وطعام عيالهم فيها، وفي زحمة وضجيج الجحيم من حولهم.
هذا تساؤل لا يتوقف عن خيالي:
أيموت شباب في مقتبل العمر من أجل حفنة تراب؟! ما جدوى الأرض إذا مات من يعمّرها؟!
أخيرًا.. لا يجب أن يموت أحد، يجب أن نظل نصرخ حتى يوم القيامة، فليستيقظ الأحياء ولينشدوا للسلام، السلام فقط.. لكي تتوقف الحرب والموت العبثي للبشر الضحايا والتائهين.
عندما لا يوجد جيش وطني يحمي الجميع ولا يتبع فئة او طائفة معينة عندما يوجد جيش يخوض حروبا غير وطنية وانما لمصالح سياسية على اقليات عرقية او طائفية تكون النتيجة عدد لا متناهي من الجماعات المتقاتلة تحمل الاحقاد والرغبة في الانتقام وتحمل السلاح لضمان بقائها اذا لم تقاتل فسوف يتم محو وجودك واقل حقوقك