شباب هاوس..
إذا كانت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 بمثابة الفجر اليمني الجديد الذي بدد كل الظلمة، فإن ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963 هي الشمس التي عمدت ضوء ذلك الفجر ليتحدا ضوءًا واحدًا خالدًا إلى الأبد. وما بين 1962 و1963 عام واحد، مثلما أنه ما بين سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول شهر واحد أيضًا. بمعنى إذا كان للثورة الشمس أن تلحق الثورة الفجر بعام واحد فقط، فقد اختارت لها أيضًا توقيتًا تاليًا في الأشهر، فكان أكتوبر/ تشرين الأول هو ذلك التوقيت، بعد سبتمبر/ أيلول بشهر واحد.
كانت الثورات تعرف كيف تختار مواقيتها بالتحديد، وكيف تجعل الأقدار تستجيب لها لتكون هي صانعة تلك الأقدار وصانعة أبطالها بامتياز. ومثلما كان للشباب الدور المحوري في ثورة سبتمبر، كان لهم الدور المحوري أيضًا في ثورة أكتوبر. وسنستعرض هنا حياة بعض من الشخصيات الشبابية المحورية في ثورة الرابع عشر من أكتوبر التي دحرت عن أرضها واحدة من أعتى القوى الاستعمارية، وهتفت في وجهها: برع يا استعمار من أرض الأحرار.
أحد هذه الشخصيات علي عنتر.. الثائر قبل الثورة الذي أوفى بكل التزاماته الوطنية والوحدوية، واختار أن يدفع حياته، ثمنًا لقناعاته الشخصية، مخلفًا وراءه تاريخًا نضاليًّا مشرفًا، لا يمكن تجاهله إطلاقًا.
لا يمكن الحديث عن ثورة 14 أكتوبر، دون التعريج على دور شمال اليمن وأبطاله في مساندة إخوتهم في الجنوب، كما لا تكاد تذكر ثورة 26 سبتمبر إلا وذكر اسم علي عنتر العصي على الموت الذي أراده له المستعمر الأجنبي، بسب حنكة قتالية رغم صغر سنّه.
بعد عودة عنتر ورفاقه من شمال البلاد، ومشاركتهم في ثورة 26 سبتمبر ضمن صفوف الحرس الوطني، قاد معارك ضارية ضد قوات الاستعمار البريطاني في الضالع وهو في السادسة والعشرين من العمر، حتى اندلعت ثورة 14 أكتوبر من جبال ردفان، واستمر مستبسلاً في قتال الاستعمار لـ4 سنوات حتى تم إعلان الاستقلال في كل أراضي جنوب اليمن في 30 نوفمبر 1967م.
تفاصيل كثيرة، مثيرة للإعجاب وملهمة عن وطنية عنتر وشجاعته، وكيف وضع ذلك الشاب القادم من مدينة الضالع، بصماته في ميادين الدفاع عن اليمن وحريته واستقلاله.
عُرف عنتر ببساطته وصراحته، وبكونه قائدًا بطلاً وشجاعًا، ومنصفًا. وفي خطاب مصور نادر، ظهر وهو يخاطب عددًا من رفاقه، معترفًا بما قدمته ثورة 26 سبتمبر في شمال البلاد من دعم لثورة 14 أكتوبر.
بلهجته الضالعية المميزة تساءل عنتر في خطابه: “من الذي أنقذنا من هذا الظلم، ومن الذي أنقذنا من هذا الاستبداد؟! من؟! “.. مضيفًا: “صحنا يا عالم.. انقذونا..؟! ما أحد سمعنا، كل واحد غارق في شِعبه”.
وتابع قائلاً: “إذا رحت أنا من منطقة الشيخ عثمان إلى دار سعد، يقولوا أيش جابك يا وليد هذه مش بلادك هذه بلاد السلطان العبدلي! وإذا تحركت من لحج إلى المسامير، يقولوا أنت وين باتجي، أنت دخلت في بلاد الحوشبي!، وبعدين، عاد كل سلطنة داخلها قبائل، كل واحد عايش في منطقته، لو خرجت تمشي من قرية لقرية، يقولوا أيش جابك وأيش تشتي؟!فكنا في سجون مظلمة، سجون فيها العذاب، وسجون فيها الويلات”.
واستطرد عنتر:” ليش نحن خرجنا من اليمن؟ ومن خرج راح إلى خلف أمريكا. بسبب الجهل والعذاب الذي كان مسلط علينا نحن كيمنيين من قبل أعدائنا الطبقيين الذين كانوا يحكمون البلد”، مضيفاً “نحن لا نريد الحياة، فالأفضل للإنسان يموت ولا هذه الحياة”.
ويضيف: أغلى شيء في حياتنا ليس العمارة ولا الخبز الكبير ولا اللحمة الكبيرة، ولكن أغلى شيء في حياتنا هي حريتنا، حريتنا التي لم تكن موجودة واوجدناها اليوم بالدم ، وليس بقراءة الفاتحة ولا بقل أعوذ برب الفلق! ولكن جاءت بالنضالات والتضحيات”.
وتابع قائلاً: “نحن المناضلين الذين خضنا النضال في البداية وفجرنا النضال في 14 أكتوبر، نقول بأن الفضل يعود للرواد الأوائل الذين قدموا أنفسهم في 26 سبتمبر لتفجير الثورة في صنعاء، هذا الضوء، هذا الشعاع، هذا الأمل، الذي أُعطي لنا”.
علي عنتر عرج في خطابه إلى واحدية ثورة سبتمبر وأكتوبر ومشاركته ورفاقه الجنوبيين ضد الإمامة في شمال اليمن ومشاركة رجال سبتمبر في معركة أكتوبر، قائلاً: “وبعد أن قضينا على الإمامة، انطلقنا وكنا كلنا ثقة طالما صنعاء ورانا سننتصر في عدن”.
وأضاف: “تحية وألف تحية للذين اتخذوا القرار وحملوا أسلحتهم عشية 26 سبتمبر، للذين تقدموا راضين بالموت من أجل حياة الشعب اليمني، ودك قلعة الإمامة، الذين حينها أعلنوا البلاغ المارد الجبار في 26 سبتمبر، من صنعاء الثورة، صنعاء اليمن”.
وتابع: “نحن نقول إن لهم الفضل علينا، ونحن نقول بأن هذه الثورة في الشطر الجنوبي، وهذا الانتصار العظيم الذي حققته قوى الثورة اليمنية شماله وجنوبه، يعود الفضل بالدرجة الأولى لرجال 26 سبتمبر”.
وختم خطابه قائلاً: “وأينما كانوا يجب أن نكن لهم الحب والتقدير، وغدًا إن توفرت الإمكانيات، هؤلاء المناضلون الشرفاء يجب أن نكتب عنهم الكثير والكثير، ويجب أن نبني لهم تماثيل وأنصبة، لأننا لا نفتخر بالحياة بأي شيء إلا من قدموا حياتهم من شأنه، من شأن سعادة هذا الشعب ورفعته وتطوره”.
لم يكن ذلك مجرد خطاب عادي، لقد كان بمثابة درس في العرفان، لا يجيده إلا الكبار بأخلاقهم.
ورغم أن حياة الشهيد البطل علي أحمد ناصر عنتر، قطفت سريعًا إلا أنها كانت حافلة بالنضال والتضحية، وقد كان لصاحبها البطل، الذي ولد في قرية الخريبة القريبة من مدينة الضالع، دورًا بارزًا ووطنيًّا خالصًا ومخلصًا في انتزاع الاستقلال من براثن “بريطانيا العظمى”، والتخلص من الحكم الإمامي البغيض.
كانت حياة علي عنتر ملؤها الصدق والبساطة والشجاعة والتضحية. وكانت تلك الخصال البطولية كافية لأن يتحول الرجل إلى أسطورة في أوساط الشعب شمالاً وجنوبًا، حيث سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الأجيال كبطل من طراز رفيع.
نشأته
في أحد الكهوف على سفح قرية صغيرة في محافظة الضالع، اسمها الخريبة، لجأت فاطمةُ لتضع مولودَها علي، وذلك في ربيع عام 1937، ليصبح بعدها اسمًا بطوليًّا لا يُذكر أكتوبر المجيد إلّا وكان له منه نصيب.
هذا الصبي الذي وُلِد ولادةَ الأسود لم يكن ابنًا لأبٍ اسمُه “عنتر”، كما قد يبدو للبعض، ولكن “عنتر” لقبٌ أطلِق عليه لشدة استبساله وشجاعته في مقارعة المحتل البريطاني.
تلقى “علي عنتر” مبادئ القراءة والكتابة في كُتّاب قريته، ثم رحل إلى الكويت طلبًا للرزق. فعمل فيها، وانضم إلى حركة القوميين العرب.
وفي 1960، عاد إلى بلده؛ وشارك في تأسيس حركة القوميين العرب في محافظة الضالع، وأصبح المسؤول الأول عنها؛ فيما عمره لم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين.
عند انفجار ثورة الـ26 من سبتمبر عام 1962 في شمال الوطن، واشتداد الهجمات المضادة في محاولة يائسةٍ لوأد الثورة الوليدة في مهدها، برزت الضرورة الملحة للإسهام في الدفاع عن الثورة أمام عنتر ورفاقه باعتبارها أهم وأنبل مهمة نضالية تقع على عاتق المناضلين الشرفاء. وإزاء هذه المستجدات الجديدة، وبرئاسة عنتر، عقد أبرز قادة حركة القوميين العرب في الضالع اجتماعهم في منزل الشهيد المناضل علي شائع هادي، حيث تم في الاجتماع تدارس خطة للإسهام المباشر في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر بكل الإمكانيات المتاحة وبمختلف الطرق. كما أن الاجتماع ناقش إمكانية الثورة في الجنوب، بعد أن توفر له أهم ظرف موضوعي لذلك.
عقب الاجتماع تحرك عدد كبير من الفدائيين مع إخوانهم من الجنوب للدفاع عن الجمهورية الفتية.
تأثر علي عنتر بالشهيد المناضل مساعد علي، قائد انتفاضة 56 ضد الاستعمار البريطاني، وكان أصغر فرد في المجاميع المقاتلة. ولكنه كان أكثرهم حماسًا وشجاعة وذكاء. ولقد كان لانتفاضة 56 أثرها البالغ في تفتق الحسّ الوطني لديه، حيث لم يتمكن حينها من المشاركة فيها بحكم صغر سنه وعدم توفر السلاح، الأمر الذي دفع به إلى حمل عصا غليظة اتجه بها صوب ساحة المعركة التي دارت في قرية (الجليلة) وقرية (نعيمة). وتحت إلحاحِه وعنادِه حصل على بندقية قديمة نوع (صابة)، وهي التي منحته حق المشاركة مع مجموعة فدائية مسلحة وضعت كمينًا لدورية بريطانية في منطقة الضالع.
استمرت الاشتباكات لمدة أربعة أيام متتالية، لينسحب بعدها المقاومون بحكم عدم التكافؤ. إلا أن (عنتر) بقي في مكانه وعندما أفرغ آخر طلقة وتمكن من اللحاق برفاقه، انتقدوه بشدة، فقال مدافعًا عن نفسه: كيف انسحب وانا ما شفيت غليلي، وهذي أول مرة يتحقق فيها أملي الذي تمنيته من زمان في أن تكون لي بندقية أقاتل بها الاستعمار وعملاءه.
ولكن أمنية عنتر بامتلاك بندقية اتسعت بعد ذلك إلى الحد الذي ينظر به إلى مولوده الأول “جهاد”، ويخاطبه قائلًا: ما أجملك يا جهاد، لقد صار طولك بطول القذيفة، ياااه ليتك كنت قذيفة (البلانسيد) من أجل أرمي بها قصر الأمير.
وبعد تلك المعركة اضطر رجال الانتفاضة للمغادرة إلى مدينة قعطبة التي جعلوا منها محطة انطلاق لعملياتهم العسكرية ضد المستعمرين وعملائهم.
ذات مرة، قام علي عنتر على رأس فرقة فدائية بمهاجمة موقع الضابط السياسي البريطاني في منطقة الصفراء، وأظهر خلالها شجاعة نادرة؛ حيث أصر على إطلاق النيران على الموقع من قرب، وتمكن مع رفاقه من إصابة عدد من المستعمرين ثم انسحبوا بنجاح. حينها قال الشهيد راجح لبوزة مفاخرًا: لو أننا نملك مئة من أمثال علي عنتر لدمرنا كل معسكرات بريطانيا.
وبعد استكمال المجاميع الفدائية تدريباتها في تعز، بدأ الاستعداد للعودة لتفجير جبهة الضالع. ومع بداية الدقائق الأولى من الساعة الثانية بعد منتصف الليل وصبيحة 24 يوليو 1964، كانت الطلقات الأولى لأول هجوم على معسكر الإنجليز ومقر الضابط السياسي في الضالع، ونسف محطة تموين القوات البريطانية بالمياه.
وبهذا تم الإعلان عن فتح ثاني جبهة بعد جبهة ردفان، دشن بها مرحلة جديدة من حرب العصابات المنظمة، التي لا تعرف التوقف أو التهدئة أو الرحمة، ولا تعرف حدودًا للزمان والمكان ولا حصرًا للطرق والأساليب.
وفي صبيحة 22 يونيو 1967، شهدت الضالع أكبر وأعنف مسيرة جماهيرية، ومن على متن إحدى الدبابات البريطانية كان عنتر يخاطب الجماهير: أيها الرفاق.. تحقق النصر وتحررت منطقة الضالع من المستعمرين، وهو الانتصار الذي صنعته هذه الجماهير الفقيرة بفضل تضحياتها الكبيرة من أجل الحرية والاستقلال.
وفي سبتمبر، بدأت مسيرة التحرك نحو عدن عبر عدة جبهات، حيث وصل إلى البريقة في نوفمبر ليحتفل مع الشعب كله بعيد الاستقلال في 30 نوفمبر 1967.
كانت حياة علي عتتر ملؤها الصدق والبساطة والشجاعة والتضحية. وكانت تلك الخصال البطولية كافية لأن يتحول الرجل إلى أسطورة في أوساط الشعب شمالاً وجنوبًا؛ حيث سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الأجيال كبطل من طراز رفيع.