كتب/ ضياف البرّاق
قال لي اليوم أحد الآباء، بسعادة وفخر: ابني الأول ارتقى شهيدًا بالأمس واليوم ارتقى مثله ابني الأخير، والعُقبى للباقين من شبابنا..!
ثم أضاف بحماس قائلًا: حزني أنني لم يوفقني الله لأرتقي قبلهم، لكنني مستعد للشهادة في أيّ وقت، وسوف أنالها برحمة وتوفيق من العزيز الحكيم..!
هذا الرجل أو الأب التعيس سرد لي قصته تلك في قلب الشارع، بالمصادفة، ويا لها من مصادفة سيئة محزنة أليمة؛ إذ شطرت قلبي نصفين، بل وكادت تذهب به شظايا صغيرة تلتقفها الرياحُ، وتنثرها في جميع الجهات، أو تبلعها من أول وهلة.
ونسيت أنه ذكر لي أنّ الكثيرَ من أبناء إخوته وأقربائه ارتقوا أيضًا.. فكلنا مشروع شهيد حتى تحرير آخر شبر من أرضنا، أي تحريرها من الحياة بحذافيرها!
في هذه الحرب العمياء المكتظة والمشحونة بالشعارات الدينية المصبوغة بصفة القداسة، يرتقي اليمنيّون، أفرادًا وجماعات، من بشر أحياء إلى بشر موتى؛ دفاعًا عن الدين والعرض والكرامة والحرية.. وعلى الأصح، دفاعًا عن وحشية الموت لا عذوبة الحياة، عن مخالب العدم لا ألحان الوجود، عن التوحش والانهدام لا السلام والاستقرار، إنه الارتقاء العدمي نزولًا من فوق التراب إلى جوفه، ويسمون سقوطهم هذا صعودًا إلى السماء!
هل علينا، نحن اليمنيين جميعًا، الصعود إلى الله بهذه الصورة البشعة، تاركين وطننا خاليًا إلا من الأشباح وأنهار الدم والركام والأنقاض؟ هل يفرح الله بموتنا العبثي؟ هل ينتصر وطنٌ بالهدم والذبح والصعود سقوطًا؟ هل يرتقي شعبٌ بعضه يقتل بعضًا؟
الناس في دول الخليج، والناس في دول أوروبا وغيرها، كلهم عبيد ومرضى وجياع لأنهم لا يرتقون مثلنا.. نحن سعداء وأحرار لأننا نرتقي باستمرار!.. إننا نرتقي من خلال صراع دموي وبيل يرتقي الموت فيه، ويتقدم على كل شيء.. فالحياة لا تحظى عندنا بأيّ قيمة؛ لأن التوحش صار فلسفتنا الارتقائية الوحيدة.. عبر القتل نرتقي من أعلى الحضيض إلى أسفله، نرتقي في تعذيب بعضنا بعضًا.. القتلة شهداء والقتلى شهداء، الجرحى والنازحون والأسرى، هؤلاء سيرتقون شهداء أيضًا، وكل طرف في الحرب يعتبر قتلاه شهداء، والذي يرتقي شهيدًا، من أي طرف كان، يحتفل به أفراد أسرته، تزغرد له قريباته، يتباهون بزفاف جثمانه إلى المقبرة، ويعلّقون صورته الأخيرة، بعد تجسيمها، على حيطان البيوت والشوارع، بهكذا جنون نرتقي بالوطن، ونتساقط جثثًا كما لو صرنا أرخص من الذباب!
المعلوم أن الشعوب لا ترتقي إلّا بالنضال من خلال ثقافة العلم والحياة ضد ثقافة العنف والموت، ولكن الذي يحدث عندنا هو أننا نسير خلافًا لذلك المنطق العام، فنحن نرتقي لتدمير ثقافة العلم والحياة ونشر ثقافة الإرهاب والإماتة، هذا هو سر الازدهار في اليمن السعير، كما سماه الشاعر اليمني المرموق يحيى الحمادي.
للشاعر البحريني قاسم حداد قصيدة يقول فيها:
“جحيمٌ يسمونه بلادًا
حينًا يُقال له الوطن
وغالبًا يحمله الشخصُ مثلَ خَيطٍ من الأوسمة”.
في الحقيقة، لم أجد وصفًا عميقًا كهذا أستطيع إطلاقه على الحال الذي صار إليه بلدنا السعيد!