كتـب/ جمـال طـه
يختلف توقيت بداية اليوم من شخص لآخر.. لكلّ واحد منّا شخصيته، وليس من حق أحد أنْ يجبر غيره على التغيير من نفسه.. هنا لا أتحدث عن زوجتي، والأمر ليس مرتبطًا بأسطورة خوف الزوج من زوجته.. أنا لا أخاف من زوجتي، وهي تعرف ذلك.. لا أعرف لماذا أشعر بالعطش الآن، ولماذا ترتجف أطرافي.. يبدو أنني محموم..!
يبدأ اليوم في السابعة صباحًا عند البعض، وآخرون يبدأ يومهم الخامسة فجرًا، وهنالك من يبدأ يومه بعد الظهر، وأنا ممن يبدأ يومهم بعد العصر؛ لذلك أعتقد أن زوجتي على حق.
لم يكن يومًا عاديًّا منذ بدايته.. اليوم يبدأ من بعد العصر، لكنني ومن أجل زوجتي، قررت أن أتغير وأبدأ يومي من الثامنة صباحًا.
من حق الزوجة أن تجبر زوجها على تغيير نفسه، ومن حقه أن يوافق بغض النظر عن فلسفته حول ذلك.. هل ستفهمني لو قلت لها إن نهار هذه البلاد لم يعد يختلف عن ليلها في شيء، وإن هذا هو السبب الذي جعلني أختصر الأمر على نفسي، وأبدأ اليوم من بعد العصر؟.. ستفهمني، لا شك في ذلك، لكن الزوجات طيبات ويعتقدن بأن الرزق مُوظف، ولديه ساعات دوام محددة في اليوم، وعلينا أن نلحقه في أوقات دوامه الرسمية.
استوقفتُ الدراجة النارية، واتفقتُ مع السائق على الأجرة، وانطلقنا…
في زحمة المدينة المليئة بالهموم نفقد ميزة معرفة حال الناس من خلال ملامحهم أو خطواتهم.. تظن أن الخلل فيك، لكن سرعان ما تنتبه أن الخلل أكبر من أن يكون كذلك.. حال الجميع واحد.. الجميع مهمومون، ومن خطواتهم البطيئة تشعر بأنهم قد فقدوا ثقتهم في الطريق.
تنتابني فكرة أخرى في نفس اللحظة.. لا أحد من المارة مستعجل.. أعصر رأسي لأتذكر متى كانت آخر مرة رأيتُ فيها شابًّا في عمري يتجاوز المارة لأنه يجب أن يصل في الموعد.
لم نعد نملك مواعيد ولا التزامات ولا مهام نركض من أجلها ونخاف من أن تفوتنا.. أنقل تركيزي للأعلى هربًا من الوقوع في فخ القلق والمزاج السيئ من بداية اليوم (اليوم الذي يبدأ الساعة الثامنة صباحًا).. اتأمل السماء، فيزداد الأمر سوءًا، وأتذكر صوت إمام المسجد العصبي، وهو يتهم المصلّين بأنهم سبب الجفاف وتأخُّر الأمطار، ويعلن أن صلاة الاستسقاء قد وجبتْ.. كان لهذا الكلام مفعول كبير في السابق، وكان يؤثر حقًّا في الناس، أما اليوم فلم يعد مثل هذا الكلام يخيف أحدًا..
يحملقون في الإمام بعيون ذابلة ووجوه شاحبة، وكلما ارتفع صوته وهو يتوعدهم بالنار إن لم يمتثلوا لأوامر الإسلام المكتوبة في الورقة التي وصلته ليلة الجمعة من الأعلى، نظروا إليه ببرود أكبر، ومن ملامحهم تشعر أنهم يقولون: “هل هذا يعني أننا لم نصل بعد؟ واذا لم نكن في النار الآن، فخذونا إليها”..
شاب مستعجل يسبق الجميع وينظر إلى الأمام.. توقف يا سائق الدراجة.. توقف هنا.. هذا الشاب لديه موعد مهم.. الحياة ما زالت بخير، يجب أن أهنئه.. يجب أن يدلني على الطريق.. على الأقل أريد أن أطمئن وأثبت لنفسي أنني بخير.
ركضت ناحيته وأوقفته.. لن آخذ من وقته الكثير؛ فأنا أعرف أنه مستعجل.
مسكت بقميصه، وسألته بإعجاب.. هل أنت مستعجل؟
دفعني بقوة، وواصل المشي بسرعة.. التفتَ إليّ وصرخ في وجهي: لستُ مستعجلاً.. أنا أهرب..!