كتب/ جمال طه
صالون الحلاقة من الخارج يبدو وكأنه قاعة اجتماعات.. تعتقد وأنت تقترب من باب المحل أن الزبائن المزحومين على كراسي الانتظار في مفاوضات تاريخية، من انفعالاتهم وحركات أيديهم.. كان ينقصهم بدلات رسمية وربطات عنق وجواكت شتوية تحميهم من البرد القارص لتصدق خيالك.
ليس من المنطق أن يرتدي أحدهم بدلة رسمية وربطة عنق وهو ذاهب لصالون الحلاقة.. لا أحد يذهب لصالون الحلاقة بكامل أناقته.
دخلتُ وتوقفتُ في منتصف الصالون، وشعرت بالإحباط بعد أن انتهيت من عد الزبائن المنتظرين، لكنني قلت لنفسي إنني أقوى من الفشل، واخترت الانتظار.. الانتظار واقفًا..
انتبه الحلاق الشاب لوجودي، وسألني على الفور: معك ملخاخ؟..
من نظرته وانتظاره للرد تظنه يطلب سيجارة حشيش.. أجبته بـ”لا”، فعاد لقص شعر الزبون وهو غير متزن..
الزبائن منشغلون في المفاوضات فعلاً، وخيالي لم يتوهم ذلك، لكنني ومن أول لحظة فقدت الثقة بنتائج هذه المفاوضات، فكل واحد منهم يعتقد أنه الأحق بالكرسي.. الجميع يدّعون أنهم جاءوا أولاً، ويخترعون الأكاذيب، ويروون بشكل جماعي قصص كفاحهم، وألم الانتظار لساعات أمام باب المحل قبل أن يفتح.
كنت أتأملهم بصمت، وأهز رأسي رافضًا لكل ما يحدث، لكنني قلت في نفسي أن هذه المفاوضات مهمة و خطوة كبيرة للأمام.. فبرغم أنها فاشلة لا محالة، لكنها على الأقل مفاوضات حقيقية، والقرار في أيدي الزبائن أنفسهم، ولا وجود لأطراف خارجية كبرى تتحكم فيهم، وتجعل من مفاوضاتهم مجرد مسرحية.. التفت الحلاق الشاب مرة أخرى ووجّه كلامه للجميع، و هذه المرة كان صوته أعلى.. معاكم ملخاااااخ؟ هز الجميع رأسه بلا، و عادوا لمواصلة مفاوضاتهم التاريخية..
في تلك اللحظة دخل زبون جديد.. توقف في منتصف المحل، وقام بعدّ الزبائن المنتظرين، وعاش لحظة الإحباط التي عشتها قبله.. انتبه الحلاق لوجوده، وهو يضع اللمسات الأخيرة على رأس الزبون “السابق”..
توقعت أن تفشل المفاوضات، لكنها نجحت، والزبائن اتفقوا على اسم الزبون الأحق بصعود الكرسي.. هذه التجربة يجب أن تُعمم.. لقد اختاروا من يمثلهم، وها هو يستعد.. يخلع قبعته، ويتوجه نحو الكرسي تحت تصفيق حار من الجميع.. يستلم الحلاق المال من الزبون السابق، ويضعها في جيبه، ثم يسأل الزبون الجديد المحبط والواقف في منتصف المحل: معك ملخاخ؟
يجيب الزبون: نعم.. يبتسم الحلاق، ويقول له: اطلع..
يأخذ الحلاق الملخاخ من الزبون ويغرسه في ضرسه، وينتشئ، ويغمض عينيه، ويقول: (حااااااااااح).. يتوقف التصفيق.. يصمت الجميع، ويعود الزبون الذي تم اختياره إلى الخلف.. يعود إلى مكانه.. يلبس قبعته، ويبدأ مع البقية مفاوضات جديدة.. مفاوضات بلا بدلات رسمية وربطات عنق وجواكت شتوية تحميهم من البرد القارص في صالون “جنيف” للحلاقة الرجالية.
#معك_ملخاخ؟