شباب هاوس.. عمران مصباح
ثمة وضع صعب في اليمن، شملت معاناته جميع الفئات وكل أطياف المجتمع، إلا أن الثقل الأكبر منه عادة ما يقع على الشباب، باعتبارهم أكثر شريحة عرضة للشعور بالعجز، فيدفع عددًا منهم لإنهاء حياتهم، هربًا من الضغوط التي يتعرضون لها طيلة الوقت.. ومن بقي من أولئك الشباب يقاوم، نال نصيبه من الضرر، ولو بالقليل من الشعور السيئ.
وعلى الرغم من أن الانتحار يحدث في كل الأوضاع وكل الأمكنة، بحيث تقول منظمة الصحة العالمية إن شخصًا ينتحر كل أربعين ثانية في العالم، وقد يكون غالبيتهم بلا سبب، إلا أن 79% من المنتحرين هم من دول ذات دخل منخفض، وهذا مؤشر قد يفسر ظاهرة الانتحار في اليمن، حيث هناك أسباب كافية لاتخاذ ذلك القرار المرعب، مما جعل هذا البلد يتقدم التصنيف العالمي لعدد المنتحرين سنويًّا، وذلك بحسب تقارير المنظمة نفسها، وهي واحدة من أكثر المنظمات الموثوقة عالميًّا.
الانتحار وأسبابه النفسية
مع أن الوضع العام لليمن قد يكون هو السبب الرئيسي الذي يدفع بكثير من الشباب لإنهاء حياتهم، إلا أن هناك عوامل أخرى تساعد في اتخاذ الشخص هذا القرار.
الإخصائية النفسية الإكلينيكية عهود المهدي تتحدث لـ”شباب هاوس” بخصوص هذا الأمر، قائلة: “أسباب عديدة تجعل الشخص يُقدم على الانتحار، لكن هناك شيئًا يربط بين أغلب المنتحرين، وهو شعور الفرد بعدم قدرته على التعامل مع الضغوطات التي تواجهه خلال الحياة، وخسران الأمل في المستقبل، بحيث يرى أن الانتحار هو الحل الأمثل، وقد تترافق معه مشاعر ضيق الأفق مما يجعله يعتقد في منتصف الأزمة أن السبيل الوحيد لتجاوزها والخروج منها هو الانتحار”.
تشير عهود إلى أن هناك دراسات مختلفة تفسر سبب الانتحار، لكن، وبحسب مؤسسة (مايو كلينيك)، فإنه يوجد ضمن الجانب النفسي للانتحار رابط وراثي، حيث قد تكون احتمالية وجود تاريخ عائلي من الانتحار أكبر لدى الأشخاص الذين يكملون الانتحار أو الذين لديهم أفكار أو سلوكيات عن الانتحار.
أما البوادر التي تطرأ على الشخص المُقدِم على الانتحار، فمنها، بحسب الإخصائية النفسية: “التحدث كثيرًا عن الانتحار، وتدمير العلاقات الاجتماعية، وتقلّب المزاج بشكل كبير، والقيام بأشياء مدمرة للنفس، والاضطراب الجذري في النوم والأكل، بالإضافة إلى سلوكيات كثيرة توحي بأنه يتحدث عن الموت كأنه شيء عادي، وقد يودع المقربين منه، كما قد يلحظ عليه شراء وسائل للانتحار، لكن إذا وصل لهذه المرحلة هنا يجب التعامل معه بجدية أكثر”.
تستدرك عهود بأن هناك نظريات علمية تقول إنه قد لا تكون العلامات التحذيرية ظاهرة في كل الأوقات، وقد تختلف من شخص لآخر، فقد يفصح بعض الأشخاص عن نواياهم، بينما يكتم آخرون أفكارهم الانتحارية ومشاعرهم.
وعن الطريقة الأنسب لتدخُّل المقربين من الشخص الذي يعتزم الإقدام على الانتحار، تتحدث عهود المهدي، قائلة: “يجب استشارة مختص يستطيع مساعدته على تجاوز الأزمة التي يمر بها، وعلاج السبب الكامن وراء هذه الأفكار مثل الاكتئاب أو الإدمان أو المشكلات الحياتية التي يعاني منها، وغير ذلك من الاضطرابات النفسية الأخرى، والعمل على إعادة تعريف معنى الحياة لديه، ويفضل في الغالب تدخّل مختصين، لأن وصول الشخص للتفكير بالانتحار، يعني أنه قد وصل إلى وضع صعب”.
أما الفئة الأكثر عرضة للتفكير بالانتحار فهي النساء، بحسب الأخصائية عهود المهدي، مشيرة إلى أنه “لا يعرف الكثير أن الأفكار الانتحارية عند النساء هي أكثر من الرجال، ولكن الرجال أكثر عرضة لإتمام الانتحار من النساء، وذلك لأنهم يستخدمون أساليب أشد فتكًا، مثل السلاح الناري وغيره”.
وتضيف: “يجب معرفة أن الانتحار ليست قصرًا على البالغين، أو كبار السن، ومن لديهم مسؤوليات كبيرة، وإنما قد تظهر عند صغار السن والمراهقين بسبب الأحداث الضاغطة نفسيًّا، وقد يرى الطفل أو المراهق هذه الضغوط على أنها ضغوط يصعب التغلب عليها، ولكنها قد تبدو أمرًا صغيرًا عند البالغين، مثل المشكلات في المدرسة أو فقدان الصداقة، لهذا من المهم عدم الاستهزاء بأيّ شخص يتحدث عن الانتحار، وإنما علينا تفهّم مشاعرهم ومحاولة مساعدتهم على تجاوز هذه الضغوطات”.
وبمناسبة الأسبوع الخاص بالوقاية من الانتحار تستحضر منصة “شباب هاوس” قصصًا لبعض الشباب اليمنيين الذين انتحروا مؤخرًا كنماذج فقط، بينما هناك الكثير من القصص، والتي لا يمكن حصرها.
فيصل دبوان: انتحار في الحرم الجامعي
في مطلع فبراير/ شباط الماضي، وُجِد الشاب اليمني فيصل دبوان منتحرًا في جامعة صنعاء.
عن السبب الرئيسي الذي ذهب به إلى الانتحار، يتحدث بشكل خاص لـ”شباب هاوس”، الصديق المقرب من فيصل وأحد أقربائه، محمد المخلافي، قائلاً بأنه يعتقد أن السبب الذي دفع فيصل للانتحار هو نظرة من حوله للحالة النفسية التي كان يعيشها.
يقول المخلافي: “بعد ثلاثة أعوام من محاولة فيصل الالتحاق بكلية الطب في جامعة صنعاء، أصيب بالصدمة لعدم حصوله على مقعد، ليدخل أزمة نفسية ابتدأت خفيفة.. وحين بدأنا نأخذه إلى أطباء نفسيين تغيرت نظرة الناس إليه، وبسبب قلة الوعي بالأمراض النفسية بدأ الجميع يتعامل معه كمختل، وغير طبيعي، وذلك فاقم المشكلة بشكل كبير، وبقي يعيش مشاعر سيئة، ويتحدث عن كراهية الناس له، ومن هذا القبيل”.
وفيما إذا كان هناك بوادر أو ملامح عند فيصل توحي بأنه سينهي حياته بالانتحار، يتحدث قريبه المخلافي، قائلاً: “بعض منشوراته في الفيس بوك كانت توحي بذلك، بالإضافة إلى كلامه الغريب، بالقول إن هذه الحياة غير مناسبة له، وإن الناس سيئين، بالإضافة إلى اهتمامه المفاجئ بالجانب الديني، والقرآن تحديدًا، وكذلك حالة الاكتئاب التي كان يعيشها، والشعور بالضيق الملازم له، والذي دفعه لحذف حسابه الأصلي، واعتزال الأدب، كما أنه أفرط في تناول القات، والتدخين”.
يضيف محمد بأن كل تلك التصرفات التي طرأت على فيصل كان توحي بأنه غير طبيعي.
وحول ما إذا كانت علاقته بأسرته ساءت، ينفي محمد ذلك بالقول: “ظروف أسرته متوسطة، وفي بداية وصوله إلى صنعاء، افتتح له محلًّا لبيع الإكسسوارات بما يزيد عن ثلاثة ملايين ريال، وبعد أن أفلس، استمر والده بإرسال مصاريفه، كما تكفل بعلاجه أثناء مرضه”.
يؤكد المخلافي أن علاقة فيصل بأسرته كانت جيدة، رغم أنه، وبعد دخوله أزمته النفسية، كان يدّعي بأن الكل يكرهه دون سبب، لكن مكالمته مع والديه كانت مليئة بالحب المتبادل.
يواصل المخلافي كلامه عن حديث فيصل ومكان إقامته في آخر أيامه، بأنه كان يعيش في بيت شقيقته، ويتحدث عن العالم بطريقه غريبة، وينصح من حوله بالتقرب إلى الله، كما أنه تعلق أكثر بالقراءة، وملازمة الكتب، والأدب العالمي، ويتحدث كثيرًا عنها، وتحديداً الروائي كازنتزاكي.
وفيما إذا ترك رسالة ما، عادة ما يتركها المنتحرون، يقول: “لم يترك شيئًا، بل كان لديه رواية لا أعلم ما عنوانها، وكان حريصًا على ألا يعرفها أحد، ولأنه قام بإحراق الكثير من الكتب قبل الحادثة بثلاثة أيام، أعتقد أن تلك الرواية كانت من بينها، لأنه عندما سألوه عن سبب إحراقها، رد: لا أحتاجها أبدًا”.
وعن شخصيته طيلة حياته القصيرة، يتحدث محمد المخلافي، قائلاً: “فيصل كان كاتبًا وشاعرًا ورسامًا محترفًا أيضًا، لكن المجتمع أقصاه.. كان يعشق الصمت، ويحب الجلوس وحيدًا، وفي أيامه الأخيرة كان ينعزل، ويبكي كثيرًا”.
ويختتم المخلافي حديثه قائلاً إنه “في يوم الحادثة كان من المفترض أن يكون على الباص للسفر إلى القرية لزيارة أسرته، لكن ما حصل أنه خرج في السابعة مساءً، ولم يعد إلى الصباح، لنتفاجأ بما حدث”.
محمد الهردي.. إنهاء هوس الهجرة بالانتحار
في أواخر إبريل/ نيسان من العام 2020، انتحر الشاب اليمني محمد الهردي في مدينة سيردانج الماليزية.
يتحدث باسل الدبعي، أحد الأصدقاء المقربين للهردي، عن الدوافع التي قادت الأخير إلى الانتحار، قائلاً: “الكثير ممن يسافرون إلى ماليزيا يصابون بالصدمة، التي تتولد من ضخامة الخذلان.. الخذلان الذي ينتج عن توقعات مهولة إزاء الحياة هناك، فالحياة في ماليزيا على تقدمها لم تكن صالحة في يوم لغير أبنائها، كما أنها حياة خالية من المعنى، وأكبر من القدرة على فهم ما تخبئه لك، ومن يريد أن تكون نقطة له للعبور، يصاب بالجمود”.
ويضيف الدبعي: “في حالة محمد، هو واحد من زملائنا الذين كانوا يتشاركون معنا نفس الطموح والأحلام في السفر إلى ألمانيا، وفي ذات المعهد الذي من خلاله يمكن تحصيل المستوى المطلوب للغة الألمانية من أجل إثبات القدرة في الحديث باللغة الألمانية لدى السفارة الألمانية في كوالالمبور”، بالتالي “فالحياة مع كل تلك الطموحات، وفي بيئة يسبقك فيها الآخرون، وجد محمد الانتحار أمامه خيارًا وملجأ مطلوبًا، لم يكن الوحيد هناك في ماليزيا من قرر إنهاء حياته، بل ثمة حالات أخرى بقيت الأسباب غير مفهومة مثلها مثل فكرة الانتحار ذاتها، والتي عادة ما توصف بأنها فكرة وفعل غير مفهوم السبب”.
وفيما إذا كان هناك أفكار تدور في ذهن محمد عن الانتحار، يقول صديقه باسل: “لقد كان من الشخصيات الهادئة، والكتومة للغاية، يتخذ من السكوت نهجًا دائمًا، ويجد في الابتسامة والنظرات البشوشة ما يكفي للتعبير، أكثر من الكلمات. بينما إنْ حصل حديث مشترك يدور حول التقدم الذي يُحرز في اللغة، وعن تصوراتنا للمرحلة المقبلة، وفي استكمال متطلبات السفر. كما أن محاولة فهم ما يدور في خاطره محدودة للغاية؛ لذا لا أستطيع القول إن ثمة بوادر كانت توحي بالانتحار، وكل ما أتحدث به هنا من ملاحظات لسلوكه، وتصرفاته، هو تفسيرات ما بعد الحدث، ولم أكن ألاحظها من قبل”.
قد يجبر الظرف المعيشي الشخص على التفكير بالانتحار، وفيما إذا كان محمد ينتمي لهذه الفئة، يتحدث باسل عن ذلك، قائلاً: “لا أستطيع الجزم بأن حالته المادية، وأسرته كافية لتجاوز غلاء المعيشة في ماليزيا، لكن، وبشكل عام، إذا استطعت ملء معدتك في ماليزيا، فإن لذة العيش فيها منعدمة، السعادة فيها تتطلب جهدًا وعناء، والثابت فيها هو الملل، والروتين الذي ينتابك على الدوام، في بلد يمكن أن يحتملها البشر لمدة شهر كأقصى مدة، وربما هذه النفسية السيئة التي تحاصرك بها هذه الدولة كانت تفوق الظرف الشخصي، ولا نغفل أن توقيت انتحار محمد كان في ذروة الحجر الصحي مع انتشار كورونا في ماليزيا، والتي كانت فيها الحياة كأنك داخل قفص، ومحاصر بشكل كبير.. وقد أصاب الاكتئاب الكثير من البشر، ومحمد أحدهم”.
عن رفاق محمد في الأيام الأخيرة، يقول باسل: “في العادة كنت ألتقي به بين كل حصة دراسية وأخرى، والتي تمتد لنصف ساعة، ونتناقش معًا ما يحدث داخل المعهد الدراسي، ولم أكن أسكن معه، فهو يسكن بمنطقة أخرى، هي بمثابة نقطة التقاء لكثير من الأسر اليمنية، والطلبة في ماليزيا، لكن، في اعتقادي، فإن شخصية كتومة مثله، لم تكن تبوح لأحد بشيء”. ويضيف: بالنسبة لمحمد، لا أستطيع بناء تصور حقيقي عن علاقته بأسرته، لخصوصية الأمر، لكن ثمة شيئًا ظاهرًا حدث بعد الانتحار، وهو إنكار أسرته انتحاره في البداية، وحاولت إيصال أنه سقط من نافذة الشقة، وقد يكون في ذلك تفسير ذو طبيعة دينية يتخوف منها اليمني بسبب ألسن الناس”.
أما عن احتمالية ترك رسالة ما لمحمد، أو قول شيء، يرد باسل قائلاً إن طريقة الحياة في ماليزيا هي رسالة كافية ومكتملة.. مختتمًا حديثه في هجاء الهجرة: “إنها وهم كبير تدور فيه بمصير مجهول، ولن تجد جوهر العالم الذي تنشده، فهي بلد ستمنحك الدروب، ولن تعطيك الخارطة، ستمنحك الكأس دون الماء، البدايات المتسعة التي لا تصل فيها إلى نهاية، إنها فخ كبير، محاط بأبنية وجدران خرسانية تحاصرك على الدوام”.
لؤي صدّام وسمات المنتحر
في مطلع سبتمبر/ أيلول من العام 2020، انتحر الشاب اليمني لؤي صدام، وهو كاتب، ويعتبر – نوعًا ما – فاعلاً في المجال العام رغم صغر سنه. يتحدث الكاتب محمد المياحي عن علاقته بلؤي، وتواصله المستمر معه، وما الذي كان يستنتجه، قائلاً: “علاقتي به استمرت لخمس سنوات، أنا وهو من مديرية واحدة، كنت أخوض نقاشًا مطولاً معه، لكنني أفشل في إقناعه بجدوى الحياة.. كان بعيداً عني، يقيم في القرية، وبسبب المسافة هذه بيننا، لم أستطع مساعدته بشكل عملي أكثر، لكن لؤي كان قريبًا مني روحيًّا، والحقيقة لم يسبق وأن عرفت شخصًا بذكاء وعبقرية لؤي، بالأخص وهو في هذا السن، كان يدهشني على الدوام، بل إنه كان يستفز عقلي، وأكثف قراءتي في الفلسفة كي أتمكن من مجاراته في النقاش”.
يضيف المياحي: “في البداية كان لؤي خجولًا وخائفًا، وحاولت تطمينه، والإشادة بالوعي الذي يملكه، استطعت صناعة قناعات مشتركة معه لفترات، لكنه كلما يشيد بي، وبمحاولة اقترابي منه، وأنني صديق جيد، ويدفعه نحو الحياة، إلا أنني ألتمس الشعور القاسي الذي يكمن في داخله، وأتذكر في آخر محادثة قال لي: أنا وحيد ولا أدري ماذا أفعل بحياتي؟”.
يرحج المياحي الأسباب التي دفعت لؤي للانتحار إلى الحياة القاسية التي عاشها لؤي، بفعل وفاة أمه وهو طفل، وحياة والده في الغربة، ولم يعد منذ ثمانية عشر عامًا.
يقول المياحي: رغم اتخاذ لؤي قراءة الكتب ملاذًا له، ووسيلة للهروب من البؤس، إلا أنه في النهاية فشل في الحفاظ على حياته.
وعن ملاحظة ميول لؤي نحو الانتحار، يقول محمد المياحي: “أولاً الأشخاص الذين لاحظت رغبتهم في الانتحار، دائمًا لا يظهرون كل سلوكياتهم، أو توجههم الكامل في ذلك، لكن ثمة إشارات يمكن التقاطها فيهم، وهي سلوكيات مشتركة، كالميول للتهرب، والقيام بتقطيع روابطهم بالمجتمع، وعدم الرغبة في الحديث مع الآخر، بالإضافة إلى إحساسه الدائم بأنه ثقيل على هذا الكون، ولديه حساسية عالية اتجاه كل شيء، ويفكر بكل شيء ممكن، ومن خلال معرفتي بالصديق لؤي، فهو كان من هذا النوع تمامًا”.
أما عن أسباب الانتحار، أو التفسيرات التي يمكن أن يصل إليها الشخص عن المنتحرين، يقول محمد المياحي، وهو صديق لؤي المقرب: “المنتحر لا يمكن فهم دوافعه التي جعلته يتخذ هذا القرار.. ويقال إن المنتحر ذاته لو عاد، لما استطاع أن يقول ما هو السبب الذي جعله ينتحر، فما الحال بنا نحن، لأن الانتحار يأتي نتيجة تراكمات، وأشياء متداخلة، ومتشابكة مع بعضها، منها القديمة، والحديثة، وكل المحللين سيفشلون في ذلك، لكن بالإمكان الحديث عن بعض التفاصيل في نهج حياته فقط”.
يبقى الانتحار قضية فلسفية مستمرة، وجدلًا أزليًّا، سيرافق الإنسان إلى الأبد، يتحدث عن ذلك المياحي، قائلاً: “الانتحار لغز، وينقسم الناس في تفسيراته، كما أن هناك غموضًا في قضية الانتحاري، ونقطة مجهولة، وستظل هكذا إلى الأبد، وقد كان لؤي يجسد ذلك الغموض في حياته، وبقي يعيش بتلك الطريقة، وباعتقادي هذه الشفرة للمنتحرين لا يمكن أن تُفك بشكل حتمي على الإطلاق”.
بخصوص درجة ذكاء المنتحر بشكل عام، ومدى إدراكه لِما يقوم به، يقول المياحي: “لا أحد ينتحر وهو في كامل وعيه، بمعنى الأحياء سيشعرون بأن ما قام به سلوكًا صادمًا، بينما لا يشعر المنتحر بذلك، لأن ما قام به قد حدث بعد تحولٍ كلّي لطبيعته المزاجية والنفسية، وبالتالي فالمنتحر هو مختلف، وبشكل جذري عن البشر الطبيعيين، ولا يُقدِم على هذه الخطوة إلا بعد أن درّب نفسه على ذلك، أي قد اكتسب مناعة كبيرة ضد الموت، وطريقه المخيف، كما يدمر غريزة الحياة، ولا يصل لارتكاب ذلك الفعل، إلا وقد انفصل تمامًا عن روابط الحياة، وبالتالي نحن من نستغرب من ذلك الإقدام”.
الحياة والانتحار ضمن الثيمات التي ستبقى عبر كل الأزمنة تشغل عقل المفكرين، يتحدث المياحي عن فكرة الحياة للمنتحر، قائلاً: “الحياة التي يتقاتل عليها البشر، ينظر لها المنتحر بأنها تافهة، ويبقى في ذهنه يدمر قيمتها، ويقنع نفسه بأن هذه التي يستميتُ الآخرون لأجلها بإمكانه أن يتخلى عنها بسهولة تامة، كما أن من ينتحر يؤذي الأحياء جدًّا لأنه يستخف بما ينظرون إليه كشيء مقدس، ويشعرهم بالرعب، وهو يهز بداخلهم أقوى غريزة في الوجود (غريزة البقاء)”.
ويختتم حديثه بأن كل ما يقال عن الانتحار هو محاولات فقط، لأن الانتحار هو موضع دراسة دائمة.