شبه انعدام لمحلات بيع الكتب الورقية من مكتبات وأكشاك في بعض المدن اليمنية، يساهم بشكلٍ أو بآخر على نشوء جيل لا يقرأ، ومجتمع غير واعٍ تسوده الفوضى والعنف، وهو ما نلتمسه حاضرًا في واقع المجتمع اليمني.
رحلة البحث عن كتاب ورقي في بلاد قضت سنوات الحرب العجاف التي عاشتها على مظاهرها الثقافية ودورها، تبدو رحلة مضنية قد لا تجد فيها ضالتك.
ويشكل هذا الانعدام سببًا آخر لعزوف الشباب عن القراءة، فإذا كان العثور عن كتاب ما شبه مستحيل، فإن أمر العزوف أصبح خيارًا واردًا أمام الشاب الذي لا يجد لذة أو رغبة تدفعه لقراءة الكتب الإلكترونية (pdf) التي تفتقد لعنصر الحميمية بين القارئ والكتاب.
زمن القراءة
كانت بعض المدن اليمنية تزهو بانتشار واسع للمكتبات، أو بما يعرف في الشارع اليمني بـ”الأكشاك” الخاصة ببيع الكتب والصحف الورقية، كما كان مألوفًا ذلك المشهد الصباحي لتجمهر عددٍ من المواطنين أمام هذا “الكشك” أو ذاك للاطلاع على مستجدات الأخبار وقراءة عناوين الصحف وعناوين الكتب التي قد تجذب أحدهم لاقتناء كتاب أو صحيفة.
ذلك المشهد في تلك الحقبة الزمنية الجميلة، ما قبل الحرب، والتي شهدت ازدهارًا واسعًا للثقافة في اليمن، احترق في العقد الأخير وأصبح رمادًا أذرته رياح الحرب والتوجهات السياسية، ولم يتبقّ منها سوى الأطلال، أو بعض المتاجر التي تمتلك كُتبًا تحمل أيديولوجيا أو توجها سياسيًّا يتبع الفئة المسيطرة على هذه المدينة أو تلك.
وفكرة أن تقتني كتابًا يحمل توجهًا خلاف تلك الفئة التي تسيطر على المدينة قد تضعك في مأزق لا قِبل لك به، هذا إذا استطعت أصلاً العثور على كتاب من هذا القبيل، ولا نريد هنا الحديث عن أبعاد التوجهات، وإنما عن الجفاف المعرفي التي آلت إليه الأسواق الأدبية والمعرفية.
مكتبة لبيع السجائر
يقول “محمد ثابت”، وهو مالك إحدى المكتبات التي أُقفلت في مدينة عدن، أن الوضع الذي أصبحت عليه البلاد ساهم بشكل أساسي بركود سوق الكتب، كما أن الفقر الذي وصل إليه الناس والحاجة لتوفير أساسيات الحياة، أبعدت الكثير عن فكرة اقتناء الكتب، فالشاب الذي كان يملأ وقته سابقًا بالقراءة، اليوم أصبح من سلم أولوياته توفير لقمة العيش، والتي قد تتطلب منه تعريض حياته للخطر في هذه الحرب مقابل توفير الطعام له ولأسرته.
ويتابع محمد بأن هذا الأمر ساهم في تغير سلّم أولويات الكثير من الشباب وعزوفهم عن زيارة المكتبات، وهو ما تسبب بركود وصل إلى مستوى الشلل التام في هذا الجانب، ما دفعه لإغلاق مكتبته التي كانت تمتلئ بالكتب المتنوعة، ومحاولة إيجاد مصدر دخل آخر يعوله وأسرته.
لكن ما حدث مع “جابر سعيد”، وهو مالك مكتبة أخرى، نتحفظ بالتفاصيل لدواعٍ أمنية، أمر آخر، فهو ما زال يعمل بمتجره الصغير، إلا أنه لم يعد يستطيع بيع الكتب المتنوعة التي يختارها هو، وإنما سُمح له من قبل جهات ذات سلطة على منطقته ببيع نوعية معينة من الكتب التي تحمل فكر وتوجه تلك السلطة، وصادرت باقي الكتب المتنوعة وأحرقتها، حسب قوله لمنصة “شباب هاوس”.
يضيف جابر أن الأمر الذي أفقده الكثير من إقبال الشباب على مكتبته، هو أن غالبية القراء لا يميلون لاقتناء الكتب التي سُمح له ببيعها، وهكذا ظلت تلك الكتب على الرفوف حتى امتلأت بذرات الغبار الناعمة، ما حدا بصاحب المكتبة إلى إضافة مواد غذائية وأنواع مختلفة من السجائر المهربة لبيعها إلى جانب الكتب، حتى يتمكن من كسب لقمة العيش.
وتوجهًا إلى صنعاء، حيث كانت تزدهر معظم شوارعها ببائعي الكتب على الرصيف وفي الأكشاك والمكتبات المركزية والتاريخية التي تحتوي مجلدات ومخطوطات أثرية، ينصدم المرء بتحول المشهد من أرصفة لبيع الكتب إلى بيع المشتقات النفطية.
كان شارع التحرير يزخر بعشرات البسطات من الكتب المتنوعة، تجد فيها بغيتك سريعًا، فما إن تشُقْك قراء رواية ما أو ديوان شعر أو أي كتاب، تذهب إلى هناك، فتجده عند أول بسطة لتشتريه وتعود بفرحة ظافر بكنز ثمين.
كانت أمهات الكتب متاحة للناظر حتى وإن لم يقم المرء بشرائها، إذ يكفيه ذلك الإحساس الذي يغمره وهو يرى مؤلفًا من عشرة أو عشرين جزءًا ينبسط أمام عينيه.
أما الآن فإن الجماعات التي تسيطر على مقاليد الحكم في صنعاء منعت بائعي الكتب وملاك المكتبات من بيع الكتب التي تحمل أفكارًا وتوجهات قد تتعارض مع أفكارهم وتوجهاتهم، ففقدت تلك المكتبات شيئًا فشيئًا ذلك المنظر البهي، إذ لم يعد ثمة ما يلفت، وقد أصبح مكان تلك الكتب إما فارغًا أو مملوءًا بعناوين باهتة.
كما أقدمت تلك الجماعات على إحراق مجموعات نادرة وقيمة من أمهات الكتب، في محافظتي صنعاء وحجة، في حادثة تعيد بذاكرتنا إلى ما قبل 1258 حين أقدم التتار على إحراق مكتبة بغداد في أعظم جريمة لطمس العلوم بمختلف أشكاله ومجالاته.
أما بسطات الكتب فقد تحولت غالبيتها إما لبيع الكتب المدرسية بطبعاتها المختلفة أو إلى سوق سوداء لبيع المشتقات النفطية، وبدلاً من أن كنت تجد تنوعًا مدهشا في عناوين الكتب، أصبحت ترى تنوعًا مدهشًا في ألوان البنزين المعروض، من أحمر إلى زهري إلى أخضر إلى زيتي… إلخ.
وهنا من الواضح جليًّا أن سبب اختفاء الكتب والمكتبات ليس له علاقة بالفجوة التي يعتقد البعض أن السوق الإلكترونية أحدثتها بتوفير كتب الـ(pdf)، فمهما كان إقبال الشباب على الكتب الإلكترونية، يظل الكتاب الورقي محافظًا على خصوصياته ورونقه لدى القارئ، وتظل الحاجة لامتلاك كتاب ورقي قائمة، وبالتالي السبب في هذه الفجوة هو الجماعات التي صادرت كل شيء واحتكرت كل شيء حتى نوعية الكتاب والثقافة التي تود أن تُلقنك إياها رغمًا عن أنفك.
رحلة البحث
أحمد المسعودي، شاب يمني يحب القراءة، بلغ ربيعه الحادي والعشرين في منتصف هذا العام، يحكي لمنصة “شباب هاوس”، تجربته المضنية في البحث عن بعض الكتب في إحدى المدن اليمنية التي كانت تعرف سابقًا بعاصمة الثقافة.
يقول المسعودي: “أنا أحب اقتناء الكتب الورقية، ولكن للأسف في الوقت الراهن لم أعد أجد تلك الكتب الخاصة بالأدب المتنوع والفلسفية والمعلوماتية والسياسية والاجتماعية، فعندما يخطر ببالك أن تقتني كتابًا وتذهب للمكتبات التي ما زالت تعمل لن تجد سوى بعض الكتب التي تتحدث عن التنمية البشرية، وبعض الروايات الحديثة السطحية وكتب دينية لا تتحدث عن الدين كما تتحدث عن التبعية الدينية للحزب أو الجماعة التي تسعى للسيطرة على الحكم عن طريق استخدام الدين”.
ويضيف: “أن تمتلك دافعًا للقراءة، ولا تجد الكتاب الذي تريده في المكتبات، يشعرك نوعًا ما بشيء من التقاعس النفسي عن القراءة، ويجعلك شيئًا فشيئًا تهجر القراءة، خاصة إذا كنت من النوع الذي لا يحبذ قراءة الكتب الإلكترونية”.
طلب الكتب عبر الأصدقاء
التصحر الذي أصاب السوق المعرفي للكتب الورقية في البلاد، دفع بعض الشباب الذي ما زال متمسكًا بالقراءة، لطلب الكتب الورقية من أصدقائهم المتواجدين في بعض العواصم العربية، وإرسالها عبر وسطاء قادمين إلى البلاد من هذه العواصم.
هاشم العيني، عشريني، يقول لـ”شباب هاوس”: “أنا أحد مدمني قراءة الكتب الورقية، وفي العادة أكتب قائمة بالكتب التي أود اقتناءها وأقوم بطلبها من أحد الاصدقاء المتواجدين في القاهرة، وإرسالها لي عبر أحد المعارف العائدين إلى البلاد”.
هاشم ليس الوحيد الذي اتخذ هذا المسلك لاقتناء الكتب، فهناك العديد من الشباب الذين استطاعوا اقتناء الكتب عبر أصدقائهم في القاهرة أو عمّان.
قد يكون الزمن المستغرق من وقت طلب الكتب وحتى الحصول عليها مشكلة بحد ذاته، غير أن المشكلة الأكثر تعقيدًا تقع أثناء عبور هذه الكتب من النقاط التي وضعتها الجماعات المسلحة في خطوط السفر.
يحكي عمار غانم واقعته التي حدثت عند عودته من القاهرة إلى صنعاء عبر عدن، وبحوزته مجموعة من الكتب التي طلبها أحد أصدقائه، حيث استوقفته إحدى النقاط الرئيسية المتواجدة في محافظة ذمار، وعثروا على الكتب.
يقول عمار: “استوقفني بعض العناصر المسلحة وطلبوا مني النزول من السيارة وأخذوا يتفحصون الكتب، ومن ثم القوا عليّ الكثير من الأسئلة والتهم بالانتماء لجهات معادية لهم، وقام أحد العناصر بتمزيق كتابين وداس بقدمه على باقي الكتب، وقال متهكمًا هذا الغزو الفكري الذي جئت به لن يدخل معك، وإذا تفوهت بكلمة سيتم اعتقالك”، فعاد عمار لصديقه محملاً بالكثير من الخيبات.
هجر كثيرٌ من الشباب القراءة لأسباب مختلفة، وقد يكون السبب الأكثر شيوعًا هو انعدام توفر الكتب المتنوعة التي تلبي حاجتهم ونهمهم للقراءة، فالكتب المعروضة في الأسواق سطحية المضمون، أو تتناول مسائل نظرية بعيدة عن الواقع، أو لا تلبي حاجات الشباب ومشاكله، بل معظمها تساهم في تمزيق النسيج المجتمعي خدمة لبعض الجماعات الدينية، وتتناول الماضي والحاضر بصورته المعتمة.
ورغم توفر الكتب الـ (pdf) في السوق الإلكتروني، إلا أن كثيرًا من الشباب لا يتجهون نحوها، لما لها من سلبيات تؤثر بشكلٍ أكبر في تدني مستوى إقبالهم للقراءة.. وتبقى المعضلة الحقيقية بانحصار مستوى توفر الكتاب الورقي في الأسواق، وتوقف الأنشطة والمبادرات الشبابية المتعلقة بالقراءة، لا سيما معرض الكتاب السنوي الذي يعد من أعظم الفعاليات الثقافية التي توقفت قبل نشوب الحرب في البلاد.