الكتابة البوكوفسكية هي بحد ذاتها مدرسة إبداعية منقطعة النظير بين مدارس الأدب الأخرى، إنها تنطلق من فلسفة واقعية واضحة وعميقة، بحيث يكون من مقدورها تصفية حساباتها مع كل شيء، دون إغراق في التعقيد، وبعيدًا عن شروط ومثاليات أدب الأبراج العاجية.
الوضوح سمة بارزة تطبع كل إبداعات بوكوفسكي، وعندما كان يذهب إلى الكتابة، يتعرّى بأكمله، نَفسيًّا وذهنيًّا، ثم يغوص في كل الأعماق، ولا يقفز على الواقع، بل يقوم بتعريته على نحوٍ شديد اللهجة!
عند تشخيصه لعيوب مجتمعه الأمريكي، يقول بوكوفسكي: “الإفراط في المديح، والإفراط هما الأسلوب المتّبع في مجتمعنا”.. وبكل تأكيد، فإن هذا الوصف ينطبق تمامًا على الذم، في مجتمعنا العربي، وهذا العيب أو المرض إنما هو مشكلة خَطِرة نعاني منها، ولم نجِدْ بعد علاجًا لها. فقد كان كاتبًا صريحًا شجاعًا، بحيث انتقدَ كل اعتلالات وعيوب مجتمعه، بأقصى جرأة، نقدًا لاذعًا باعثًا على الضحك والبكاء في وقت واحد. لم يتملق مجتمعه، كان بعيدًا عن المديح والنفاق، دومًا. ونحن العرب، لدينا كثير من الكتّاب، ومن أدعياء الكتابة، يتملّقون الجمهور والسلطة بلا كلل أو دون خجَل، ويُلمِّعون أبشعَ عيوب مجتمعهم المتردّي، وبأكثر مما يتنفّسون يمارسون النفاق كحرفةٍ ارتزاقية مُربِحَة جدًّا!
ربما أعظم برهان على أن هذا الوجود ليس عديم جدوى، هو وجود بوكوفسكي نفسه، إنسانًا وكاتبًا! فهذا إنسان أتقن فن الكتابة بكل ما للإتقان الفني من معنى، فأنجزَ أروع الكتابات، التي لا تذوب ولا تختفي مع مرور الزمن.
الفن إتقان بديع، وإلّا صارت قيمته هابطة وباعثة على الشك. تلك متعة هائلة أحظى بها عندما أقع غريقًا في نتاجه الروائي بشكل خاص. إذن ليس هذا الوجود سوى الفن بعينه، الفن المتقن طبعًا. وعلى المرء أن يبتكر أسلوبه الخاص، وأن يتقنه إلى حَدٍّ مقبول، كي يكون لوجوده معنى. والفن عند بوكوفسكي، هو الأسلوب، أيْ ذلك التعبير الساحر الذي يخطف القارئ أو المتلقي، ويوقعه في خِضَمّ الدهشة، أسيرًا لها، وبحق، قد كان بوكوفسكي ذا أسلوب مُدهِش، مُؤثِّر، عميق الأهمية. إنه لمبدع عظيم، هو عبارة عن جاذبية نادرة تشكّلت من ثلاثة عناصر: الموهبة، والجرأة، والبساطة. كان، في معظم آثاره الإبداعية، مُبتكِرًا ومُجدِّدًا وأصيلًا.
أحيانًا، أشعر بالملل من كل شيء، ومن الجميع ما عدا بوكوفسكي؛ فأنا أحبه بلا حد، وأقرؤه بشغف، وأعود إليه بين حين وآخر، كي أغوص في عالمه بعمقٍ أكثر. وقد توفي بوكوفسكي في نفس العام الذي وُلدتُ فيه أنا، 1994 بالضبط. ولكني عرفته، واتّخذتُه صديقًا حقيقيًّا لي بدايات العام 2017 تقريبًا، حدث هذا الأمر بالمصادفة طبعًا.. يقول صديقي الغالي في آخر عمل له: “ثلاثة أشياء يحتاجها المرء في الحياة: الثقة، والتدريب، والحظ”.. فهكذا كان يبتكر الجملة العميقة أو يستخلصها من أبسط موقف حدث له، أو رآه أمامه، أو من دمعة عابرة، أو من تجربة عاشها بعمق، ثم يقدمها إليك، أيها القارئ، ساخنةً، وشهية، على طبق من الجَمال الفني المُميَّز. وعندما تقرأ شيئًا من أعماله، لا بُدَّ أن تشعرَ بنبض الحياة يتدفّق، بكثافة، من شرايين عباراته، وتحس بحرارة أنفاسه كأنها تختلط بأنفاسك، بل وتشتمُّ تلك العفونة الفائحة من أعماق أيامه القاسية التي عاش فيها تعيسَ الحظ، بلا هدف ولا نقود ولا بيت..
يتمتع بوكوفسكي بروحٍ أصيلة مُتمرِّدة أبعد من اللازم، ويتمتع كذلك بطاقة عبثية ضخمة جدًّا، ولكنه لا يفعل شيئًا من دون أسلوب، لا طريقة للعيش أفضل من الأسلوب، فكن يا عزيزي ذا أسلوب فريد، ولتبتكر أسلوبك الخاص، ثم اندفع في الحياة، من الاتجاه الذي تشاء، لا بأس بهذا، بل إنه شيء رائع.. يقول “الأسلوب هو الجواب لكل شيء”، في قصيدته البديعة المسماة: Style.
اقرأ بوكوفسي لكن لا تطلب منه اللطافة أو الأمل، اقرأ له ولا تطلب منه أن يحترم الحياة أو يلتزم الحياء، فقط اقرأ إبداعاته، ودَعْ فضولك النقدي جانبًا. كان يكره الموتَ، كان يكره الحياةَ. لكنه بعد عناء مرير، وضياع طويل، قرّرَ أن ينهض، وربما قال في قرارة نفسه: سأنجو، ونجا فِعلًا. أراد ألّا يُشبه أحدًا، فكان فريدًا مُنفرِدًا، وتفنَّن حتى في تصوير عبثيّته. هو من الجحيم، جاء من هناك، فكافح، واستعصى على الموت، مع أنه تجرّع من جميع المرارات، وخاض في كل أشكال التعاسة، مُعانِدًا نفسه، مُتحدّيًا واقعه اللعين، بشراشةِ رجلٍ بارع في التعبير عن أدق التفاصيل، وأكبر الهموم.
لا أحد يشبهه، ولا أراد أن يكون شبيهًا لأحد، صرخ مَرّةً بحماسٍ نرجسيّ: “لا أحب أن أشبه أحدًا”، وتحققت إرادته. كان متصالِحًا مع ذاته، إنسانًا وشاعرًا وكاتبًا، ويعيش حياته من دون تصنع وتكلف، ودون لف ودوران من وراء أقنعة زائفة. بوكوفسكي الشخص العادي، هو نفسه بوكوفسكي الشاعر والكاتب العبقري. مشكلته أنه لا يعرف الاعتناء بنفسه، قال هذا مرة. لا يقبل أن تأتيه التعليمات والنصائح من الآخرين، ولا يطيق حالة التقليد، يبقى كما هو، ويقود نفسه بنفسه، غير مُبالٍ بشيء! مثل بركانٍ سارَ في نخاع الحياة، برغم هشاشته، وعذاباته اليومية، وافتقاره الدائم للمأوى والأمان. هزمته الحياة القاسية، وهزمها، طاردته على الدوام، وأفلتَ من قبضتها أحيانًا. كان يغامر، ويكرر المخاطرة دون استسلام، وبكل عشوائية ولا مبالاة وجنون قد عاش حياته إلى آخرها. جنونه مُفكِّر، ويأسه مناضل، وفظاظته نكتة بديعة!
أعمال بوكوفسكي هي فصول حياته كما عاشها، ولكنه أضفى عليها خلطة الفن والجمال والخلود. هذا الرجُل لم يكن يكتب إلّا من أجل أن يعيش، من أجل أن يبقى على قيد الحياة، كما تكلم هو عن نفسه في مقابلة صحفية مُتلفَزة، على ما أذكر، ولم يسعَ يومًا نحو الشهرة. كان صادقًا مثل العاصفة، جريئًا مثل الموت، واضحًا مثل التشرُّد الذي لازمَ حياته، وابْتلعَ حلاوتها لعقود عديدة. تسأله: لمن الحياة؟ يجيبك في الحال: إنها لمن يجرؤ! وهو محق جدًّا في هذا. أمّا الذي لا يمتلك الجرأة، فسوف تحطّمه الظروف القاسية، ويُرمَى سريعًا في سلة المهملات. ثم إنّ الكتابة، بالنسبة إليه، إنما هي موهبة وجرأة وتفرُّد مستمر، إنها نوع من التخريب الجميل الذي لا ينفصل عن الحقيقة التي يعيشها، وبالفعل عاش هكذا، في الشوارع والحانات والكتابة، وكتب طبقًا لفلسفته الشخصية، ومن منطلق رؤيته الخاصّة للعالَم.
خلال سنوات تشرُّده، وفي أغلب الليالي القاسية، كان ينام على مقعد في حديقة عامة، على ذاك المقعد كان ينام، أو يُحتضَر، وعمل في مهن كثيرة، وصعبة، ولعنَ كلَّ شيء من حُرقةٍ ويأسٍ وتحدٍّ، إنه خطير وقليل الحذر، فاضح ومفضوح حتى الاستماتة، وكان يكره الوعّاظ، والنقّاد، ويسخر بالبشر جميعًا، بفكاهة مُضحِكة لاذعة. لكي يكتب، الكحول ضروري، الكحول ضروري جدًّا، “أنا سكّير تاريخي، ولا أحد ينافسني في هذا”. وبحق، كان مدمنًا كبيرًا لا يفارق الكحول، ولم يعرف الرهبنة قط. يُحذِّرك من القطيع، من الحشود، يقودك نحو الهاوية المكشوفة، بدلَ أن يرميك في ضجيجٍ غوغائي زائف. وعندما أصبح مشهورًا، راح يسخر من نفسه أيضًا، ومن شهرته التي حظي بها في الجزء الأخير من عمره. هو لم يعش أكثر من 74 عامًا، لكن حضوره سيبقى ساطعًا إلى زمن بعيد المدى.
في الحقيقة، لم يكن بذيئًا وقاسيًا وكاذبًا، بل كان بتلك اللغة الجريئة، العجيبة، كمن يزرع الوردَ والنكتةَ والبهجةَ في حقول من الألغام. لقد جاء إلى هذا العالَمِ الشَّرِه، الغريبِ، مجروحًا، وحيدًا، مشرَّدًا، مكشوفًا لأقسى ظروف الحياة، واصطدم بجحيم اجتماعي قاسٍ، وارتطم بوجه الهاوية، وقفز فيها، واختلط دمه ونبضه ودمعه بكل شيء، لكنه لم يهرب إطلاقًا من هذا الفخ الضاري الذي وقع فيه، ولم يُعلِن استسلامه له البتّة. هو صاحب البذاءة الأدبية الأقوى والأشهر والأكثر جمالًا وصدقًا، وذو الجرأة الضاربة، والجُمَل البسيطة المُفرِطة في الجَمالية العبقرية!
عند كتابته عن مكسيم غوركي، يقول سلامة موسى: “وليس هناك كاتب عظيم إلّا وتحس المرارة فيما يكتب”. ينطبق هذا الوصف على أدب بوكوفسكي، فهناك مرارة كبيرة يحس بها القارئ عندما يقرأ كتاباته وقصائده؛ فما إن تصطدم بأدبه أو بشعره حتى يصيبك بالجنون، ولكنه يُجرِّعك كؤوسَ المتعة الفائقة، أقول، ثانيةً، لا تقرأ له؛ إنه مجرم أدبيّ يذهلك، ويجتذبك إلى عالمه، يصدمك ويمضي قُدُمًا، ولا يمارس عليك أكاذيب تافهة، لقد عاش وعانى، وكتبَ فأبدعَ، فكانَ خارِقًا مُمتِعًا، ومتقدِّمًا على سابقيه ومعاصريه جميعًا، وسيظل يثير قُرّاءه، ويدهشهم، فاعلًا بهم كل هذا بأسلوبٍ ممتاز.
“الكاتب التخريبي لا يتقصّد أن يكون كاتبًا تخريبيًّا. إنه لقاء الفطرة ونداء الأشياء. فهذا هذا هو دوره بمجرد أن يعبّر عن تجربته، عن فكره، بمجرد أن يفتح فمه”، هكذا كتبَ أنسي الحاج، مرّةً، وهو الشاعر اللبناني المعروف؛ لأن الكتابة، حسب نظرته، هي “فعل تخريبي، لأن الكاتب يكتب ليقلبَ القارئ، ولكي ينتصر على عالمٍ يرفضه متخيّلًا على أنقاضه…”، وانطلاقًا من هذا المعيار، فإنني أرى أن بوكوفسكي قد كان كاتبًا تخريبيًّا من الطراز الأول، وعلى النهج الاستثنائيّ الأروع.