شباب هاوس.. خديجة الحبشي
يُعرف الدان الحضرمي على نطاق واسع بكونه الفولكلور الغنائي لمنطقة حضرموت (شرق اليمن)، عدا أنه بخلاف فرادته اللحنية، يمتاز بتقليد اجتماعي ليس له نظير في أيّ بلد عربي آخر، إذ إن جلسات الدان تعتمد على ارتجال شعري جماعي تتم تأديته غناءً.
يُمثل الدان فضاءً فنيًّا واسعًا يشمل الإبداع الشعري والغنائي، ويحظى هذا الفن بتبجيل وتقدير كبيرين بالنسبة للحضارم.
وهذه المكانة شبيهة بتلك التي كان يحظى بها غناء الترابودور في أوروبا خلال القرون الوسطى، وترى بعض النظريات الأوروبية أنه فن تأثر بالثقافة لعرب الأندلس أو العرب الإسبان، كما جرت تسميتهم.
وكان مغني الترابودور شاعرًا أيضًا، وأصبح نمطًا أدبيًّا يمتلك قيمة بالنسبة للبلاط والعامة، وتفاعل معه الرجال والنساء على حد سواء، وهذا الاهتمام العام يتضح في الدان من خلال تدوين الرجال والنساء لأشعاره في دفاتر خاصة.
وبخلاف أنه فن ضارب في القِدم، لا يمكن تحديد عُمره الزمني، فطابعه الشفاهي يحول دون توضيح مراحل تطور أو حُقب زمنية، فهذا الفن يبدو أنه حافظ على نمطه عدة قرون.
ويرى بعض الباحثين أن بداية الدان تعود إلى حوالي 500 عام، لورود لفظة دان في عدد من قصائد العالم الصوفي عمر بن عبدالله بامخرمة.
وفي بحث ميداني قامت به الباحثة “شهرزاد قاسم حسن” عن فن الدان، لاحظت عدة ظواهر، منها سرعة تدوين الأشعار التي تظهر في جلسات الدان، أي أنه أدب يحظى بعملية توثيق سريع ومستمر، وهذا أمر لا مثيل له، ولا تستبعد الباحثة شهرزاد، أن جلسات الدان تُمثل امتدادًا لأداء الشعر المُغنّى، الذي عُرفت به الجزيرة العربية منذ العصور السابقة للإسلام. ونظرًا لموقع وادي حضرموت، فإن تناقل تقليد يمتد إلى جذور بعيدة، وارد.
وافقت منظمة اليونسكو على طلبٍ تقدمت به وزارة الثقافة اليمنية في عام ٢٠١٩ من أجل إدراج فن الدان ضمن قائمة روائع التراث الإنساني اللا مادي، لكن لجنة الخبراء الدوليين في اليونسكو قدمت عدة ملاحظات للجانب اليمني من أجل استكمال الملف.
ردت منظمة اليونسكو على ملف الدان المُقدم من وزارة الثقافة، وركزت على عدة ملاحظات من أجل استكمال الملف، والذي بموجبه يمكن إدراج فن الدان ضمن قائمة الموروث الإنساني اللا مادي.
وحددت اليونسكو نواقص مثل أن الملف لا يشرح بشكل كافٍ بعض الجوانب، مثل كيف ستسهم التسجيلات في تعزيز التنوع الثقافي، إضافة إلى أن دور المجتمعات في تنفيذ وتدابير الصون غير مذكورة بوضوح، وكذلك مشاركة المجتمع في بعض الجوانب.
غير أن القيادة الحالية للثقافة لم تمنح الملف الاهتمام الذي يستحقه، وفقًا لفاعلين ثقافيين، يعبرون عن المجتمع المتطلع لأنْ يرى غناء الدان ضمن التراث اللا مادي العالمي، وبتحقق ذلك سيلتحق الدان الحضرمي بفن الغناء الصنعاني الذي أدرجته منظمة اليونسكو، في 2003، ضمن تلك القائمة، وهذا سوف يُمثل اعترافًا عالميًّا بقيمة التراث اليمني.
علاقتي كـ”خديجة” بالدان مستمرة في كل مراحل عمري، وهو القاسم المُشترك بين أبناء الحضارم.
في طفولتي كنت أسمع جدتي (حبابتي) تدندن بألحانه، بينما تتدبر شؤون المنزل، وكانت أيضًا تكتب أشعاره بالطلب لأهل العروسة والعريس عندما يحين قرب زواجهم، فمن ضمن العادات السائدة في الزواج الحضرمي يتغنين النساء بالدان، وهو نوع يؤدى في الأعراس، وتصاحبه الإيقاعات. أي أنه يتم تطويعه لوظائف غنائية مُصاحبة للحالة أو الواقعة، فهذا الشعر الذي يؤدى غناءً، يحضر في الجلسات والمسامرات.
أما النوع المُعتمد على الارتجال الشعري، طقس معروف في وادي حضرموت، ويُعرف بدان “الحدنة”، ويقتصر الارتجال الشعري على جلسات الدان، التي تُمثل مخزنًا للإبداع الشعري، ومنها تنتقل أبيات لأنواع أخرى من الدان.
يشترك عدد من الشعراء والمغنين في جلسات الدان، بمساجلات وجدانية، ويتطلب وجود ثلاثة عناصر: (الشعراء والمغنين والملقنين)، ويمكن أيضًا أن يكون هناك طرف آخر، هو الجمهور.
وينظر اليمنيون لفن الدان بفخر، وكفنٍّ شفاهي كان ذلك عاملاً مساعدًا على ديمومته والمحافظة عليه منذ فترة قديمة، وكان له تأثير واسع في غناء الجزيرة العربية، ولم يقتصر ذلك على توظيف مفردة الدان كقيمة غناء تستهل كثيرًا من الأغاني، إنما امتدت إلى ألحانه وأساليبه.
وتُمثل ألحان الدان هوية تُميز الحضارم، فهو الأرض اللا مادية شعرًا وغناء، والرمزية لوطن الأسلاف.
ومثل أي فن شفاهي، يبقى فن الدان مُهددًا بتأثيرات ثقافة العولمة والقرية الكوكبية.. وبخلاف أنه موروث حافظ على خصوصيته، فإنه لن يبقى محصنًا، نتيجة هيمنة ثقافات عالمية سائدة، وكذلك نتيجة تأثير ثقافات إقليمية تُهيمن عبر منصات الإعلام.
مما لا شك فيه، أن فن الدان بحاجة إلى مشروع للحفاظ عليه، وهو ما سيتحقق بدرجة كبيرة في حال نال اعتراف منظمة اليونسكو بهذا التراث العريق، فإدراجه إلى قائمة التراث العالمي اللا مادي سيشكل دفعة قوية لحشد خبرات عالمية ومحلية لدعم عملية توثيقه والحفاظ عليه.