دهليزرئيسي

العنف المدرسي في الیمن: تساھل القانون ومباركة المجتمع

تحقيق/ نجم الدین قاسم

من الباب الموارب لغرفة الصف رقم 8، یُطِل تلمیذٌ ھزیل البنیة، تلمع على جبینھ حبات العَرَق من أثر الجري صعودًا في الطریق الجبلي المفضي إلى مدرستھ في مركز مدیریة الحدیة بمحافظة ریمة (جنوبي غرب صنعاء)، كانت قد مرت عشرون دقیقة على بدایة الحصة الأولى. یتوقف معلم الریاضیات مقطبًا حاجبیه وھو یتطلع إلى القادم الجدید شزرًا، قبل أن یتناول عصاه الغلیظة ملوحًا بھا في حركةٍ نصف دائریة، صار التلامیذ یفھمون معناھا أكثر من أي شيءٍ آخر.شظایا استقرت إحداھا في عین ھیمان الیسرى. في إثر ذلك، نُقل ھیمان بعینٍ تخثر الدم حول مِحجرِھا إلى مستشفى “مغربي للعیون” بصنعاء، في رحلة تستغرق ثماني ساعات بالسیارة على الأقل، وھناك، كان على والد ھیمان )ھارون الجعدي، 49 عامًا( أن یسمع الحقیقة المُرّة.

یتقدم التلمیذ البائس بخطى متثاقلة، متأبطًا حقیبته القماشیة الزرقاء البالیة، بینما یمد راحة یده بارتعاشٍ وتردد نحو المُعلم الغاضب الواقف في مقعد الصف الأمامي، حیث یجلس الطالب ھیمان الجعدي (13عامًا) إلى العصا وھي تھوي على راحة زمیله، مُحدِثةً صوتًا یشبه خَشْف الساطور: جلدةٌ أولى وثانیة، وفي الثالثة یفقد التلمیذ تجلده وینثني ضامًّا یده إلى جذعه في وضعیة الركوع كالمطعون، وھو یبكي ویتوسل، فیما المعلم یزمجر بصوت یتصنع الصرامة: “خلاص باقي واحدة.. افتح یدك سریع”، یستجیب التلمیذ مادًّا یده التي صار لون باطنھا أقرب إلى الوردي، ومرةً أخرى تھوي العصا على تلك الید بقوة كانت كافیة لجعلھا تتحطم ویرتد جزء منھا إلى شظایا استقرت إحداھا في عین ھیمان الیسرى. في إثر ذلك، نُقل ھیمان بعینٍ تخثر الدم حول مِحجرِھا إلى مستشفى “مغربي للعیون” بصنعاء، في رحلة تستغرق ثماني ساعات بالسیارة على الأقل، وھناك، كان على والد ھیمان )ھارون الجعدي، 49 عامًا( أن یسمع الحقیقة المُرّة.
“كنت لا أعرف ما أصنع، لم أجد بُدًا من ببیع مزرعتي، رغم ذلك لم یكن المبلغ كافیًا لدفع قیمة العملیة التي تكلف 4500 دولار، لولا مساعدة بعض أھل الخیر الذین أعانوني بدفع بقیة المبلغ، وبالفعل سافرت وإیاه إلى الھند، وأجریت لھ العملیة، مع ذلك لم یستعد كامل بصره، كما كنت أأمل، إنما بنسبة %70 فقط، لذا ھو الآن یجد صعوبة في رؤیة الأشیاء الصغیرة أو البعیدة كما كان في السابق”، یقول الجعدي.

* تطبیع متوارث مع العنف
لا یرى والد ھیمان مَدْعاةً لمقاضاة المعلم على ما حدث لابنھ، طالما أن ما حدث لم یكن مقصودًا حد قولھ، في حین لا یجد غضاضة في أن یلجأ المعلم إلى جلد الطلاب بالعصا، إذا كان الھدف ھو تربیتھم وحملھم على التعلم، وھو رأيٌ یتشاركھ مع غالبیة أولیاء الأمور الذي یتعاملون مع الأمر كأحد المُسلمات الراسخة في الوعي الشعبي، التي تتعامل مع الضرب كمفھوم ردیف للتربیة، إلى الحد الذي أصبح الاستخدام الشائع لـ لفظة “أربّي” في المحلیة الدارجة بمعنى “أضرب”، فضلا عن القناعات المترسبة من الماضي، حین كان استخدام الشیخ أو الفقیھ )المعلم( للعصا في الكتاتیب التقلیدیة أمرًا مألوفًا لحمل الأطفال على حفظ القرآن الكریم أو قواعد النحو مثلاً، كما یُبین الكاتب واللغوي أحمد عوضھ، تعقیبًا على امتناع والد ھیمان عن تحمیل المعلم مسؤولیة ما حدث لابنھ، وتعلیق الأمر على كونھ قضاءً وقدرًا، ولعل ذلك یعكس مدى تصالح الوعي المجتمعي مع مظاھر العنف المدرسي تجاه الأطفال في الیمن، حیث تتعدى كونھا حالات فردیة نادرة الحدوث، بقدر ما ھي ظاھرة تتكرر بشكل لافت وعلى نطاق واسع، بما في ذلك مدارس الفتیات.
أسماء محمد )11 عاماً(، طالبة في الصف الخامس في إحدى مدارس صنعاء الأھلیة، عانت من كسرٍ في إبھام یدھا الیسرى عندما ضربتھا المعلمة التي قررت معاقبة الصف جماعیاً لمجرد أن مجموعة من الفتیات أثرن شغباً.
یَذّكُر والد أسماء، أنھ ذھب في الیوم التالي إلى المدرسة، وحدث شجار كبیر مع الإدارة، وقرر سحب ملف ابنتھ من المدرسة ورفع شكوى قضائیة على المعلمة وإدارة المدرسة، لولا أن ناظرة المدرسة استطاعت بلباقتھا احتواء الموقف، وطلبت من المعلمة تقدیم اعتذار حار، وتكفلت بعلاجھا، ما جعلھ یتنازل ویعفو عنھا.
ومن خلال استطلاع قام بھ “شباب ھاوس” استھدف من خلالھ 220 طالبًا من جمیع المحافظات الیمنیة، تبین أن المناطق الشمالیة والوسطى من الیمن ھي الأكثر إستخدامًا للعنف في المدارس الحكومیة والخاصة، بینما المناطق الجنوبیة والشرقیة ھي الأقل من حیث استخدام المعلمین للعنف ضد التلامیذ.

* قانون مغلول الید
شیوع ظاھرة العنف المدرسي تجاه التلامیذ، على ھذا النحو، قد یخلق انطباعًا مبدئیًا بعدم وجود قوانین أو لوائح تحظر ممارسة مثل ھذه التجاوزات أو تترخص إزاءھا، لكنھا في الواقع موجودة، حیث أقرت
وزارة التربیة والتعلیم في الجمھوریة الیمنیة، نحو 5 قرارات وزاریة، آخرھا القرار رقم 426، لسنة 2012، الصادر عن وزارة التربیة والتعلیم، الذي ینص على حظر استخدام العنف الجسدي أو النفسي تجاه التلامیذ، في كافة مدارس الجمھوریة وریاض الأطفال الحكومیة والأھلیة والخاصة، ویُحال إلى التحقیق من یخالف ذلك، كما ینوه القرار الوزاري إلى معالجة الاختلالات والمخالفات التي یقوم بھا التلامیذ معالجةً تربویة عن طریق استدعاء أولیاء أمورھم.
رغم ذلك لم یتم إعمال ھذه القرارات بالشكل المطلوب، كما لا توجد احصائیات عن نسبة ضحایا العنف المدرسي، بحسب منیر الفقیھ، مسؤول الشؤون القانونیة في وزارة التربیة والتعلیم بصنعاء، ویقول الفقیھ: “نحن في الوزارة لا نستطیع تنفیذ تلك القرارات، كوننا جھة إشرافیة ولیس في مقدورنا مراقبة جمیع المدارس بمحافظات الجمھوریة، إنما ھذه مھمة مكاتب التربیة والتعلیم في كل محافظة، فھناك مختصین في كل مكتب مھمتھم أن یتفقدوا ھذه المدارس، ویقومون بنزولات میدانیة لرفع تقاریر بالتجاوزات والمخالفات التي تحصل في كل مدرسة، وجدوى ذلك تتوقف على تعاون الطلاب وأولیاء الأمور بالإبلاغ عن أي تجاوز یحصل بحقھم، عندھا سنتخذ الإجراءات اللازمة”.
ویؤكد الفقیھ، أن جزء من مشكلة إغضاء الطرف على ھذه التجاوزات تقع على أولیاء الأمور، إذْ ما یزال بعضھم یجھل أن العنف المدرسي یعد أمرًا غیر قانوني، ویجب ألا یحدث، حیث ما یزال معظم الآباء یعتقدون أن استخدام المعلم للعصا أمر طبیعي، وھو ما یستدعي خلق وعي بضرورة الإبلاغ عن أي تجاوزات لیتم التعامل معھا بجدیة من قبل الوزارة، حد قولھ.
بینما ترى الأخصائیة الاجتماعیة ھناء الشاوش، أن الأمر لا یخلو من عدم جدیة من جانب وزارة التربیة والتعلیم في، إلزام المدارس بالقرارات واللوائح التي تحظر استخدام العنف في المدارس، في الوقت الذي یستدعي تطبیق مثل تلك القرارات لحمایة التلامیذ، وخاصة الأطفال منھم من ممارسات العنف المدرسي.
وتبین من خلال عینات الاستبیان التي عمل علیھ “شباب ھاوس”، أن %65 من طلاب المرحلة الأساسیة قد تعرضوا للعنف الجسدي واللفظي بشكل مستمر خلال فترة الدراسة، و%30 تعرضوا للعنف اللفظي، بینما أجاب %5 أنھم تعرضوا للعنف مرة واحدة خلال المرحلة الأساسیة.
وفي المرحلة الثانویة، فقد تعرض %52 من الطلاب في ھذه المرحلة إلى العقاب الجسدي واللفظي معًا، و%35 تعرضوا للعنف اللفظي والأذى النفسي، بینما قال %13 من الطلاب في المرحلة الثانویة الذین استھدفھم الإستبیان بأنھم لم یتعرضوا لأي أذى نفسي أو جسدي، لكنھم شھدوا أستخدام العنف ضد زملائھم في الصف.
* عُقَد نفسیة وتبعات مزمنة في مركز الإرشاد الأسري بصنعاء، تستقبل الدكتورة أماني سوید -أخصائیة الطب النفسي للأطفال- یومیًا عدید الأطفال من ضحایا العنف المدرسي أو الأسري، غالبیتھم لا تتجاوز أعمارھم 10 سنوات یعانون من تبعات نفسیة مقلقة جراء تعرضھم للعنف أو التنمر في المدرسة؛ تقوم سوید وفریقھا بإعادة تأھیلھم نفسیًا، بھدف تدارك تبعات الأذى المعنوي الذي نالھم في مقاعد الدراسة، تقول: “ھناك نسبة منھم یعانون من عقدٍ یمكن اعتبار بعضھا أمراضًا نفسیة، نتیجة تعرضھم للعنف اللفظي والجسدي والنفسي من قبل المدرسین في المدارس، جعلت بعضھم منطوٍ یخاف من أي شخص، ویرفضون تماما فكرة العودة إلى المدرسة، فیما آخرون أصبح لدیھم تبول لا إرادي، بعد إن كانوا طبیعیین”.
في حین، یؤكد الدكتور إبراھیم الشرفي أخصائي الأعصاب والأمراض النفسیة، بمستشفى الأمل بصنعاء، أن العنف بشكل عام سلوك جالب للضرر ولیس لھ علاقة بالتربیة الصحیحة، لما لذلك من آثار نفسیة قد تحق قلب الطفل بالعدوانیة في فترة مبكرة، لافتًا إلى أن عدید الحالات من ھذا النوع وصلت إلى عیادتھ، لأطفال من الجنسین تعرضوا للعنف أو الضرب المبرح من المدرسین/ المدرسات، “وصلتني حالة لطفلة في العاشرة من عمرھا، كانت تعاني من تعنیف في المنزل بسبب المشاكل الأسریة، وھذا انعكس في أدائھا بالمدرسة، كانت فاقدة للتركیز، ولكن المدرسة أیضًا لم تحاول معرفة السبب في تدھور وضعھا التعلیمي، وتكرر أن تعرضت للضرب من معلیمھا في المدرسة، وھو ما أثر بشكل كبیر في نفسیتھا وآلیة تفكیرھا، إلى درجة أنھا حاولت الانتحار، ھروبًا من الھواجس التي صارت تھیمن علیھا سلوكًا وتفكیرًا”.
ومن خلال عملھا كأخصائیة اجتماعیة وتربویة، تؤكد ھناء الشاوش، أن الاعتقاد أن العقاب الجسدي أو النفسي للطلاب بمبرر إصلاح سلوكیاتھم، ھو اعتقاد خاطئ ووحشي وغیر إنساني بالمطلق، إنما على العكس یؤدي إلى نتائج سلبیة على التلامیذ خصوصًا الأصغر سنًا، قد تخلق لدیھم عقدًا نفسیة ونفورًا من المدرسة “وقد لاحظت خلال عملي في المجال التربوي، كیف أن معظم الطلاب الذین یجنحون إلى التسرب من المدرسة، كانوا ممن سبق أن تعرضوا للعنف من قبل معلیمھم”.
والمثیر للأسى، أنھ حتى الآن لا یوجد أي بادرة جادة من الجھات الرسمیة، تُعنى بالحد من ظاھرة العنف المدرسي والاستخدام المفرط للعقاب اللفظي أو الجسدي تجاه التلامیذ، رغم خطورة إبقاء الوضع على ما ھو علیھ، وتضاعف عدد الضحایا الذین منھم من یتعین علیھ قضاء بقیة عمره بإعاقةٍ جسمانیة كحال ھیمان الجعدي، أو نفسیةٍ تنذر بتطبیع جیل كامل على سلوك العنف والقسوة، والأخطر من ذلك، أن یُغرَس في أذھانھم أن تلك طریقة مثلى في التربیة والإصلاح.

قرارات وزارة التربیة والتعلیم التي تنص على منع إستخدام العنف من قبل المعلمین والإدارات المدرسیة ضد الطلاب

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى