كتب/ جمال طه
الشعب المستعجل من الصباح إلى الليل يعيش وقت الغداء ذروة استعجاله، ولو كنتَ سائحًا، وزرتَ اليمن لأول مرة، ورأيت ما يحدث في المطاعم وقت الغداء، لشعرت بأن العالم سينتهي بعد نصف ساعة، أو أنّ بركانًا ما ثار في ضواحي المدينة وسيصل إليها بعد خمس دقائق ولا أحد يريد أن يهرب وهو جائع.. لكن، وعلى عكس ما تتوقعه، لا ينتهي العالم ولا يصل البركان، فتسأل نفسك أين ذهب إذًا كل البشر الذين كانوا قبل نصف ساعة يصيحون “بسرعة نزِّلوا الغداء.. بسرعة الغداء.. الغداء.. أين الطلب.. ييييه.. احنا مستعجلين بسرررعة”..
دفعت أنا وصديقي الحساب مقدمًا، وتنقّلنا داخل المطعم الذي اخترناه حسب قرب موقعه الجغرافي باحثين عن طاولة شاغرة، وعندما عجزنا عن إيجاد واحدة قررنا الانتظار بجانب الطاولة الذهبية.. والطاولة الذهبية هي الطاولة التي شارف أصحابها على الانتهاء من تناول الطعام.. الطاولة التي يوجد فيها أكثر عدد من الصحون الفارغة..
بقى صديقي يحرس الطاولة وذهبت للمغسلة.. لا تخلو مغاسل المطاعم من المرايا.. هناك حيث يتفقد اليمنيون وجوههم لمرة واحدة في اليوم.. يحدث ذلك قبل الغداء، وأحيانًا بعده، لكن الأغلبية يتفقدون وجوههم قبل الغداء.. يتأملون ملامحهم ويتفحصون جوانب رؤوسهم.. يبحلقون باستغراب في الشعر الأبيض الذي أتى قبل أوانه، كلنا نرفض أشكالنا الظاهرة في مرآة مغسلة المطعم، فنحن نعتقد بأننا أكثر وسامة مما نبدو عليه في هذه المرآة الكئيبة.. لا أحد يثق بمرايا المطاعم، ولا يحبها.. رفضنا القاطع لأشكالنا المريبة في مرايا المطاعم يجعلنا ننسى فطرة الاستعجال وننسى ما جئنا لأجله.. نتجاهل أيدينا ونركز على وجوهنا.. نغسلها مرة ومرتين ثم نُخفي بأطراف أصابعنا فراغات رؤوسنا، ثم نشعر بالخوف من اقتراب رحيل المائة شعرة المتبقية، وبعدها نمسح الغبار من على قمصاننا، ونتفقد حال أسناننا.
مغسلة المطعم هي المكان الوحيد الذي لا تشعر فيه بأن الإنسان اليمني مستعجل.. الثلاثة الأشخاص الواقفون أمام المرآة والمتحكمون في مداخل ومخارج المغسلة بالكامل في المرحلة الأخيرة.. هذه المرحلة تبدأ حين يقترب الشخص من المرآة ليرى ملامح وجهه على المرآة من المسافة صفر.. هو يستسلم بعدها ويعود إلى الواقع.. يلتفت بسرعة نحو المنتظرين في الخلف، ويعتذر لهم، ثم يتوجه إلى طاولته ليبدأ الصراخ:
“بسرعة نزِّلوا الغداء.. بسرعة الغداء.. الغداء.. أين الطلب، ييييه.. إحنا مستعجلين بسرعة..”.