دهليزرئيسي

التنمر الإلكتروني.. عنف من وراء الشاشات وقيود للإبداع 

سُكينة محمد

لا شك أن النهضة التكنولوجية والرقمية العالمية التي شهدتها السنوات الأخيرة جعلت من العالم – فعلاً – قرية صغيرة؛ حيث سهلت أداء المهام ولخّصت التواصل في بعض أسطر، ونقلت الأحداث مباشرة بالصوت والصورة، ووحدت الاهتمامات، وجمعت العالم في بوتقة واحدة، لكنها أيضًا أوجدت عنفًا ممارَسًا على منصاتها ومواقع التواصل التي أتاحتها، عُرف مؤخرًا بـ”التنمر الإلكتروني”، مستهدفًا الجميع دونما رادع يردعه من قِبل أيّ جهة مسؤولة، ليتزايد أكثر وأكثر، ويشمل كافة البلدان بلا استثناء.

المقصود بـ”التنمر الإلكتروني”
التنمر الإلكتروني هو أن يقوم شخص ما من وراء شاشة الهاتف النقال  بكتابة كلام مسيء يستهدف به شخصًا آخر على إحدى منصات التواصل، أو بإرسال رسالة تتضمن سبابًا أو شتيمة أو قذفًا أو تهديدًا أو ابتزازًا أو خداعًا أو انتحال شخصية، بغرض إيذاء المتنمَّر عليه، أو استخدام صور شخص ما للسخرية من مظهره، أو نشر معلومات خاصة عن الأشخاص ومشاركتها دون إذن منه.
ويتنوع التنمر الإلكتروني بين انتحال للهوية وتشويه للسمعة، وبين قرصنة إلكترونية من خلال البرامج الضارة والتحكم بحسابات الضحايا والتجسس عليهم والمطاردة الإلكترونية من خلال رسائل التهديد والابتزاز والخداع، ويصلُ الأمر إلى التحرش والمضايقة وإرسال رسائل مسيئة وغير لائقة، أو التعليق بشكل سلبي ومهين، أو السخرية من المشاركات وصور الأشخاص في مواقع التواصل.
ولأن اليمن لم يسلم ،هو أيضًا، من ظاهرة التنمر الإلكتروني التي انتشرت بشكل طاغٍ على المشهد الرقمي اليمني؛ فقد أجرت منصة “شباب هاوس” استبيانًا إلكترونيًّا نُشر على موقعها وصفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذا استبيانًا ورقيًّا وُزِّع على عينة من الشباب، حول أسباب التنمر والدوافع التي تجعل الكثيرين يلجؤون إلى استخدام تلك الطريقة ضد الآخرين.

بحسب الاستبيان الإلكتروني الخاص بمنصة “شباب هاوس”، رأى الشباب أن الآراء والمعتقدات هي السبب الأول للتنمر، وذلك بنسبة تصل إلى 58.5%، بينما جاء الشكل والمظهر ثانيًا بنسبة 30.6%، وتوزعت باقي النِّسب على الجنس والسن.
وجاءت نِسب الاستبيان الورقي مغايرة؛ حيث حلّ الشكل والمظهر أولاً بنسبة 62%، وجاءت الآراء والمعتقدات بنسبة 23%، أما السن فبنسبة 9%، والجنس 6%.


وحول مدى الأثر الذي تتركه ظاهرة التنمر بشكل مباشر في الضحايا ونفسياتهم وإبداعاتهم، رأت ما نسبته 32% من الفئة التي شملها الاستبيانان بأن التنمر يقلل من مشاركة الكثير من رواد مواقع التواصل، ويؤثر في نفسياتهم، لكن النسبة الأكبر منهم 67.2% يرون أن ذلك لا يؤثر فيهم.
ولعل الكثيرين حدث لهم أن تعرضوا للتنمر خلال مشاركتهم في مواقع التواصل، أو كانوا على معرفة بأحد ضحايا التنمر.
وبحسب الإحصائية في الاستبيان، فإن ما نسبته 72.1% يرون أنهم ضحايا للتنمر، فيما اعترف ما نسبته 27.9% أنهم متنمرون.
وبحسب إحصائيات الاستطلاع، ورد أن الإناث أكثر عرضة للتنمر الإلكتروني بنسبة 64.6%، فيما قال 35.4% إن الذكور هم الأكثر.
وبحسب الاستبيان الورقي للذين اختاروا المؤهل التعليمي (ثانوي)، فقد جاءت النسب كالتالي، حيث تعرض 78% منهم خلال السنوات الثلاث الماضية من 5 إلى 10 مرات تنمر، ورأى ما نسبته 87% أن التنمر آخذ في الازدياد، بينما كان ما نسبته 92% من تلك الشريحة الطلابية ضحية للتنمر، واعترف 8% أنهم متنمرون، وكان الشكل والمظهر هما السبب الأول للتنمر بين طلاب الثانوية الذين وُزِّع عليهم الاستبيان الورقي لمنصة “شباب هاوس”، وذلك بنسبة 58%، فيما جاءت الآراء والمعتقدات بنسبة 35%، والسّن بنسبة 5%، والجنس 2%.
وورد في الاستبيان الإلكتروني نسبة 81% يعتقدون أن التنمر آخذ في الازدياد، وما نسبته 12.2% لا يوافقون على ذلك، فيما 6.8% ليسوا متأكدين من ذلك.
أما أكثر مواقع التواصل الاجتماعي المنتشرة فيها تلك الظاهرة، فاحتل موقع فيسبوك في الإحصائيات نسبة 70.6% كأكثر منصة اجتماعية يتعرض مستخدموها للتنمر.

التنمر سلوك وحرفة
نوران خالد، فنانة وأحد الرواد المشاهير في مواقع التواصل الاجتماعي، تقول: “تعرضتُ للتنمر بشكل كبير ومتكرر، وبطرق مختلفة، وما زلت أعاني من التنمر إلى اليوم”.
تضيف نوران: “حدث في مرات كثيرة أنْ أثّر التنمر في نفسيتي، وتم التنمر على شكلي وأعمالي في موقع فيسبوك، وأيضًا إنستجرام”.
تشاركها المشكلة ذاتها آيات ثابت، والتي تقول لـ”شباب هاوس”: “بدأتُ مشاركة أعمالي في المكياج السينمائي على وجه الأطفال، وتعرضتُ لموجة من التنمر امتدت لمهاجمتي واتهامي بالعنف، وأني سأكون أمًّا سيئة، مما أثار حفيظتي، وبررتُ لذلك في منشورات على حائطي الفيسبوكي”.

المتنمرون يشعرون بالنقص
قالت الفنانة فاطمة مثنى لـ”شباب هاوس”: “قبل فترة نزلت صورتي مع إخوتي على حسابي فيسبوك.. شاركها أخي على حسابه، وانهالت عليه تعليقات مسيئة فيها تنمر وشتم وقذف، وأصبحت الصورة “ترند” لمدة أسبوعين، قامت حملة تضامن واسعة حينها ضد كل من يتنمر أو يسيء لنا”.
وتضيف: “قبل فترة أيضًا في أحد اللقاءات التلفزيونية طلب مني المذيع غناء مقطوعة صغيرة من أغاني المهد والطفولة الخاصة بتراثنا اليمني.

تنمر البعض على كلمات الأغنية، وكأنني أنا من كتبها.. تنمروا على تاريخهم وتراثهم وألعاب طفولة آبائهم وأجدادهم قبل أن يتنمروا على شخصي”.
وقالت: بالنسبة لي لا أعطي للمتنمرين أيّ قيمة، بل أشفق عليهم، فهم أناس يشعرون بالنقص، فيهاجمون كل ما يرونه أو يسمعونه ليحاولون لفت الانتباه لهم، أو كي نعيرهم الاهتمام.
كما لا أتأثر ولا أهتم سوى بالنقد البناء، نقد المحتوى فنيًّا.. أستمع جدًّا للنقد الموضوعي الصحيح الذي يكون غرض الناقد فيه محبته وشغفه لرؤية وسماع عمل فني مكتمل الأركان.

التنمر الإلكتروني يزداد ويُحّجم الإبداع
مها جلال، فنانة تشكيلية، تقول لمنصة “شباب هاوس”: “قبل سنة قمت بعمل صفحة على موقع فيسبوك لنشر ما أرسم، وتعرضت لموجة من التنمر والسب والقذف؛ فقط لأن رسمي على حد وصفهم لا يناسب المجتمع باعتبار أن إحدى اللوحات كانت متجردة من الملابس، مما دفع والدي لإجباري على حذف الصفحة ووقف الترويج لأعمالي”.
وتضيف مها: “تمت مساومتي على الاستمرار بالرسم مقابل ألا أرسم صورًا مخلة بنظرهم، وكل ذلك بسبل تعليقات الفيسبوك؛ مما دفعني تمامًا للتوقف عن الرسم”.
وتؤكد للمنصة لمياء الشرعبي – ناشطة على مواقع التواصل: “أنا أكتب أفكارًا، وأفتح مساحة للنقاش في أشياء مهمة، وأناقش قضايا الشباب، إلا أن هناك من يتدخل في شكلي أو ملبسي أو كيف أتحدث، ويحول النقاش لشخصي، لكن أنا لا أهتم”.

البعد النفسي للتنمر
تقول لـ”شباب هاوس” الأخصائية النفسية آلاء عبدالحق إن التنمر الإلكتروني يدفع بالكثير لوقف ما يقومون به، وذلك كرد فعل لحماية أنفسهم، مما ينتج عن ذلك قلة الإنتاج أو معدوميته.

ويضيف إلى كلامها الدكتور عبدالقوي العدني بأن “الشخص المتنمر عليه يعاني من آثار نفسية وجسدية وعاطفية بمجرد بضعة كلمات قد تسبب له الإحراج، ويعد ذلك تعديًا على الخصوصية والدفع بالشخص إلى التبرير،  ويحدث أن دخل شخص ما من معارفي حالة نفسية وبداية اكتئاب بسبب تعليقات مسيئة”.
ويستطرد العدني بالقول إن ما يؤذي أكثر هو أن الكثير من المتنمرين مجهولو الهوية بأسماء مستعارة، وقد يكون تنمرهم من باب التسلية والضحك دون إدراك منهم أن ذلك يسبب الأذية النفسية والعاطفية والجسدية أحيانًا بالنسبة للمتنمر عليه، والأخطر من ذلك عدم تنبه المجتمع إلى أن ما يحصل من تنمر هو آفة يجب التنبه لها ومجابهتها والقضاء عليها قبل توسعها.
وتشدد آلاء على أن التنمر يسبب قلقًا وآلامًا في المعدة وصداعًا، ويقلل الإبداع أو يقلصه، ويدفع بالشخص للتفكير بالانتقام، كما يسبب تأثيرًا على المدى الطويل كالاكتئاب والشعور بالوحدة والانطوائية والقلق، وكذلك يدفع الشخص للانعزال وتقل مشاركاته الاجتماعية في محيطه، وفي أسوأ الحالات قد يدفع للانتحار، واستخدام الوقت والجهد في التفكير بإرضاء الآخرين على حساب القناعات.

التنمر عند الطلاب
تقول لـ”شباب هاوس” المرشدة الاجتماعية أميرة محمد إن نِسب التنمر في ازدياد، وتلاحظ ذلك في المدرسة التي تعمل بها.
وتضيف: التنمر يؤثر في المستوى التعليمي للكثير من الطالبات، والكثير منهن يتحولن لشخصيات عدائية، وأشعر أن الفتيات يكتسبن طرق تنمر من مواقع التواصل، وأيضًا من كثير من المسلسلات.
وتورد آية محمد (طالبة) أنه إبّان ظهور شهادتها الثانوية، وبفرحتها بنتيجتها العالية، شاركتها على حائطها بالفيسبوك، لكن الكثير اتهمها بالغش دون دراية، والكثير تنمر عليها وطالبها بالكتابة حتى يتأكدوا من صدق درجاتها ومن إملائها.
وتضيف آية أن من تنمروا عليها ليسوا من المحيط الذي يعرفها ويعرف كم ذاكرت واجتهدت حتى تنال درجتها باستحقاق، بل كانوا أشخاصًا لا يعرفونها.

النساء الحلقة الأضعف في سلسلة التنمر
تحظى النساء في مجتمعنا بمعاملة تميزهن عن الرجال تصنف ضدهن في الكثير من المواقف، من ضمنها التنمر الإلكتروني الذي قد يمتد للعنف.  وجاء في الإحصائيات أن الإناث هن أكثر عرضة للتنمر على موقع التواصل الاجتماعي.
يقل نشر الصور الشخصية للفتاة أو المرأة في مجتمعنا على منصات التواصل، وما إن تنشر فتاة أيّ صورة شخصية لها حتى يتم معارضتها والمسّ في عرضها، ويتم استخدام الصور استخدامًا سيئًا دون إذن، وتتعرض الفتيات للهجوم بمختلف الأعمار من فتيات صغيرات لشابات بالغات، وقد يمتد ذلك لقياديات مجتمعية وأستاذات جامعيات.
تقول د. ألفت الدبعي – أستاذة علم الاجتماع في جامعة تعز: “التنمر يمارسه أصحاب العقول الضيقة الذين لا يؤمنون بحرية التعبير، وخاصة إذا كانت امرأة يشعرون بوصاية عليها أكثر وكأنهم إذا دخلوا في عرضها سوف يؤدي ذلك لتوقفها عن التعبير عن رأيها”.

وتضيف: هذا مجتمع يحتاج إلى الارتفاع بوعيه، وإحداث تنوير ثقافي لديه، وبالتالي ما يحدث من رد فعل هو طبيعي، خاصة في ظل مجتمع يحتاج لفترة طويلة من ممارسة الحريات حتى يعتاد عليها.
وتواصل الدبعي: “لكن أنا مع أن يكون هناك قوانين تضبط النشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وتكفل الحقوق.
بدورها، تقول لـ”شباب هاوس” المحامية خولة عبدالجبار إن القانون اليمني لا يحوي صراحة مواد تعاقب على الجرائم الإلكترونية أو التنمر، وإن المصطلحات ما زالت فضفاضة، مشيرة إلى أنه لا بد من التعديل الفوري والعاجل لنصوص صريحة تجرّم وتعاقب الجرائم الإلكترونية، ومن ضمنها التنمر، وتنص هذه الجرائم بمسمياتها الحديثة.
وتضيف: هناك في قانون الجرائم والعقوبات اليمني رقم 12 لعام 1994م وردت فيه مواد قانونية مثل المادة 292، التي تنص على أن “كل من سب غيره بغير القذف يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بالغرامة ولو كانت الواقعة المسندة للمجني عليه صحيحة”.
والإشكال أن معظم المواد تتحدث عن القذف أو السب أو التشهير أو التدخل في الحياة الخاصة دون تحديد الوسيلة المستخدمة حديثًا.
وتضيف لا بد من الضغط لتعديل القانون الجنائي بشقيه الإجرائي والموضوعي.

مواجهة التنمر
تفاوتت وجهات النظر في طرق مواجهة التنمر بالنسبة لضيوف منصة “شباب هاوس”، فالدكتور عبدالقوى العدني يرى أن مواجهة التنمر لا بد أن تمر بسلسلة من الإجراءات، أولها تغيير إعدادات الخصوصية على منصات التواصل، والتحكم في من يستطيع رؤية ما ينشره الشخص أو يشاركه للآخرين، ولا يعني ذلك وضع قيود على استخدام الإنترنت.
فيما ترى نوران خالد أن دعم أصدقائها لها وثقتها بنفسها خفف عنها وطأة التنمر والتفتت لأعمالها، ولم تعد تتأثر كثيرًا.
لكن بالنسبة لآلاء عبدالحق، فإن التجاهل ليس حلاً، حيث تقول: “إلى متى سنستمر بالتجاهل، وبالمقابل يزداد المتنمرون قوة وتعديًا؟ لذلك لا بد من عمل حملات دعم ومُناصرة للأشخاص الذين يتعرضون للتنمر لرفع معنوياتهم والتخفيف عنهم، والدعوة لتشجيع الناس على رفع دعاوى قضائية ضد من يتعرض لهم بالأذى.
وترى الدكتورة ألفت الدبعي أن منهجها الخاص في مواجهة التنمر هو الصبر على هؤلاء السفهاء، وعدم إيلاء ما يفعلون أيّ اهتمام، بل المضي بخطى وأهداف واضحة.
وترى المحامية خولة عبدالجبار أن للجميع الحق في استخدام آمن للإنترنت، وأنه لا بد من توعية قانونية وضغط لإقرار حقوق مثل: لا يجوز التعدي على شخص وانتقاد شكله أو مظهره، وأن تناقش الأفكار بحدود أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وألا تهاجَم المرأة لشكلها أو ملبسها أو صورها، وأن انتحال الشخصية جريمة، والابتزاز والخداع جريمة، وأن تشويه السمعة على مواقع التواصل، والإضرار بالناس على المنصات الإلكترونية أيضًا جريمة.
وورد في إجابات الاستبيان أن التبليغ عن المتنمرين خيار وارد، وإجابات أخرى قالت إن الصمت هو الأجدى في الوقت الحالي، في ظل غياب قوانين رادعة.
بينما عبّرت إجابات أخرى بالقول إنه بالثقافة والوعي، ورفع معنويات الضحايا، يمكن مواجهة التنمر، ولعل خيار عدم المواجهة واللا مبالاة يكون مجديًا أيضًا في ظل عدم الرقابة والعقاب للمتنمرين.

اللغة الانجليزية

https://shababhouse.net/2023/08/01/cyberbullying-violence-behind-the-screens-and-restrictions-on-creativity/

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى