كتبت/ بنيان جمال
“ونحن اليمنيون نبكي كثيرًا مؤخرًا ومنذ زمن، نبكي أوطاننا ولا نكتفي فنبكي فلسطيننا أيضًا.
ولكنني أتفاجأ بدموعنا تغدو ملونة، دموع صفراء وحمراء وزرقاء وخضراء وسوداء، وأتساءل كيف يبكي الناس دموعًا ملونة؟!”
درستنا المعلمة القديرة، تلك التي ما زالت تبتسم بلا راتب ولا حياة، أن الضوء الذي نراه هو انعكاس الشعاع على الأسطح وأنه – علميًّا – لا يشع من الأشياء، ولكني أكاد أن أجزم أن لتلك المدينة ضوءًا يشع من أعماقها لا انعكاسًا، وأن المدن تتمايز بألوانها، فهناك تلك المدن الصفراء ذات الإضاءات الخافتة، مدن مليئة بالتصنع وغارقة في العمل والاكتئاب، وهناك مدن بيضاء، جميلة ونظيفة ولكنها مملة، مليئة بالمال والفرص ولكنك لا تعيش فيها، وإنما تمر عليك الحياة فيها مرور الكرام، وهناك مدن رمادية، لا شيء فيها، لا نحزن فيها ولا نفرح، مدن فاقدة للشغف وتفقدك هويتك وإيمانك، وقدرتك على الصراخ، حتى تغدو رماديًّا مثلها.
وهناك مدن سوداء، مبنية على أوجاع الناس وأنينهم، أبنيتها شاهقة ومخيفة، شوارعها غارقة في العوادم والذُل.
وهناك مدن حمراء، يغطيها الدم وتسمع صراخها ولكنك تقف عاجزًا، تتفرج أنهارها وبحرها وهي تتحول إلى اللون الأحمر، تبكي وتصرخ وتلعن العالم الذي لا يقول شيئًا ولا يفعل شيئًا، إلا الهذيان المزعج.
وهناك مدينتي، تشع من داخلها كل الألوان، فيها الأسود والأحمر والأبيض، وفيها الأصفر والأخضر والأزرق، ولا انعكاس لها إلا في قلوبنا، تزين بيوتها قمريات ملونة فتعكس ضوء الشمس نهارًا إلى داخل المنزل أضواءً بألوان مختلفة، فيها لون الدم، وفيها شعاع من فرح، وفيها اسوداد قاتم متداخل مع مزيج من الألوان التي تنعكس على مجالس اليمنيين ومقايلهم ومعابدهم وموائدهم فتخرج تناقضًا يوميًا اعتدناه، تناقضٌ يظهر في الحرب الممتدة والأفئدة اللينة، في الخوف اليومي وبطولة الاستيقاض صباحًا بعد الليالي المخيفة، في الحب الدافئ والكراهية الممنهجة، في التنوع الساحر والعنصرية المفرطة، وفي الفقر المدقع والكرم الحاتمي.
كما قد تنطفئ مع غروب الشمس، وقد يطول انطفاؤها، ولكنها تعود لتشع من داخل بيوتها ألوان تظهر في الشوارع وتملأ المارين أملاً وفرحة.
إن القمريات في مدينتي نموذج واضح لمزاج أبنائها وبناتها، حيث لم يكتفِ اليمنيون بالنوافذ ولكنهم أرادوا الضوء أكثر، أرادوه باهيًا متعدد الألوان، أرادوا أن تضيء بيوتهم، وأن يرسلوا الضوء خارجها.
تعود نشأة القمريات إلى ماقبل ٤٠٠٠ عام، ويأتي اسمها من شكلها الأول المشابه للقمر، ويقال من وظيفتها في إدخال ضوء القمر، كما أنه يُعتقد بأنها جاءت في زمن عبد اليمنيون فيه القمر (ال مقة، ولكنها برأيي الآن دلالة ومؤشر على ارتفاع نسبة اللهفة للحياة لدى اليمنيين واليمنيات.. ونحن اليمنيون نبكي كثيرًا مؤخرًا ومنذ زمن، نبكي أوطاننا ولا نكتفي فنبكي فلسطيننا أيضًا.
ولكنني أتفاجأ بدموعنا تغدو ملونة، دموع صفراء وحمراء وزرقاء وخضراء وسوداء، وأتساءل كيف يبكي الناس دموعًا ملونة؟!
ولكنها هي بلد المعجزات، كاختراع تضعه أعلى النافذة يصدر الضوء ملونًا إلى داخل البيوت صباحًا، ويرسله خارجها مساءً، وكالسلام الذي ندعو له وبه ما غربت الشمس على قمرياتنا وما شرقت.