شباب هاوس – أمل السبلاني
المجتمع اليمني ثقّافة شعبيّة زاخرة بأعراف وقواعد اجتماعيّة، تُملي على الرَّجُل كيف يجب أن يتصرّف مع الآخرين وبشكل خاص المرأة، على نحو ما يُمكّنه من الحفاظ على مكانته واحترامه كرجُل، فبرزت وترسخت مجموعة من التوقّعات الصارمة حول مفهوم الذكورة، القوة، والشجاعة، والاستقلالية، والقيادة، والشدة في الرأي.
تُرجمت هذه الصفات من جانب في سلوكيات إيجابيّة مثل الشهامة والشرف وإعالة الأسرة وحمايتها. ومن جانب آخر أَنتجت ما يُسمى بـ “الذكورة السامَّة” الحاضرة بقوة وبصورة منتظمة في المجتمع، وأبرز أشكالها عدم الاعتراف بالضعف، واللامبالاة بالمشاعر، والعدوان، والعنف، وحب السيطرة، وتقليل احترام الآخرين.
فأصبحت إحدى أبرز وجهات نظر الرجل السائدة في المجتمع، لأنَّني رَجُل، لا أبكي، ولا أهتم بالعواطف، حيث يَتطلب مني الثبات وإظهار القوة! وإلا سيُنظر إليّ باستهجان وسخرية، فضلًا عن مواجهتي لضغوط اجتماعية أخرى، يقول أحمد (اسم مستعار) وهو في الثلاثينيات من عمره: “لم أبك منذ فترة طويلة، أذكر أن آخر مرة بكيت فيها كانت في فترة المراهقة، وسبب ذلك ثقافة المجتمع التي تنظر إلى بكاء الرجل على أنه ضعف، وانتقاص في الرجولة”.
معايير ذُكُورية سامّة
ومن أهم الخطابات الذكورية أيضًا، لأنَّك رَجُل؛ يجب أن تتعامل مع المشاكل باستخدام العنف، وخاصة ما إذا كان مع المرأة “اكسر لها ضلع يطلع لها 24″، و”يا ضارب البنت بالعصا راقب الله وجر الصَمِيل”. ولأنك رَجُل؛ قَوّض من حقوق المَرأة، وضعها في أدوار تقليدية محدَّدة، فأنت من يُحدد ما هو مناسب وغير مناسب لها، وفي النهاية “المرة مرة ولو زمرت”، و”المرة مرة ولو تنمرت”.
تُعبر هذه الأفكار صراحةً عن الضغط المُمارس من أجل الامتثال للمعايير الذكورية السامة، وهي بمثابة أوامر “قضائيّة” تُفرض على الأولاد منذ الصغر، وتُشكل سلوكياتهم، وقد يؤدي تأثر الرجُل الشديد بها إلى إصابته بالمشاكل النفسيّة مثل القلق والاكتئاب، وارتكابه للأعمال الضارة، بما في ذلك العنف المنزلي، والتحرش، والاعتداء الجنسي.
تُعد أهم أسباب هيمنة الخطابات الذكورية في اليمن افتقار ثقافته الشعبيّة، المُرتكزة أساسًا على قاعدة المشافهة للخطابات والنصوص الأدبيّة والأمثال والحِكَم التي تؤكد مكانة المرأة وتَحُث على الدعم الذكوري لها، بل والأبعد من ذلك أن تخصصات علميّة مثل علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية في جامعتي صنعاء وعدن وغيرها، تَفتقد للنهج والإطار المعرفي المتعلق بمفهوم “الذُكُورة الإيجابيّة”، حيث إن فهمه وتضمينه في المناهج الدراسيّة والأبحاث ضعيف أو غير موجود.
نحو تغيير معنى الرجولة
في هذا السياق، ابتِداءً، يجب تَبني الذكورة الإيجابية القائمة على المبادرة والإبداع والمغامرة، على نحو ما أشار إليه أوشو في كتابه “ماذا الآن يا آدم؟”، وأن تُستبدل التصورات النمطية للذكورة، بأخرى إيجابية، تَدعم محاربة كل أشكال العُنف ضد المَرأة، وتعمل على تقديم جميع الأدوار الذكورية بصورة داعمة لها، فأن تكون رَجُلًا يعني أن تَكون الأب العادل، والزوج المُساند، والابن السوي، والأخ العطوف، وأن تكون معها قويًا بما يكفي لتكون ضعيفًا!
تَقول أفراح ناصر، باحثة في المركز العربي – واشنطن: “نظرة المجتمع لمعنى الذُكُورة في اليمن نظرة – للأسف – لا تقبل بالذكورة الإيجابيّة، حيث تَتعارض مع النظام الأبوي القائم فيه، إلى جانب ثقافة القبيلة التي تُمجد حمل السلاح للذكور؛ وهذه النظرة أيضًا لم تُعطهم فرصة أن يكونوا على طبيعتهم، بعيدًا عن نظرة المجتمع النمطية للرجولة”.
وتُكمل ناصر: “لنشر ثقافة الذكورة الإيجابية أو الصحية علينا التعامل مع المسألة من جذورها، فمثلًا لا بُدَّ من معالجة قضايا النظام الأبوي وثقافة حمل السلاح، وباعتقادي تعزز الذكورة الإيجابيّة من خلال تشجيع الرجال على التعبير عن أنفسهم بمعزل عن النظرة النمطية لمعنى أن تكون رجلًا، مثل (أن الرجال لا يبكون أو لا يشعرون بالألم)، ويتحقق ذلك بداية من البيت، عبر تربية الأهالي لأولادهم، ومن ثم من محتوى التلفزيون والراديو والإعلام بشكل عام، وتستطيع الدولة أن تقدم دورًا مهمًّا، حيث لا بُدّ من إنشاء قوانين تقضي على كلٍّ من التمييز والقوانين المخالفة للعدالة الجندريّة”.
الذُكُورة الإيجابيّة، ليست مجرد مفهوم، بل هي نمط وأسلوب حياة، لا يقوم على إلغاء الفوارق الطبيعية بين الجنسين، إنما على بناء التوازن والاحترام لتحقيق العدالة، لذا يتطلب تحقيقه جهودًا كثيرة يُشارك فيها جميع أفراد المجتمع. وبداية يجب تنشيط وتشجيع الدراسات البحثية المتخصصة بالنوع الاجتماعي وبالأنثروبولوجيا الثقافيّة، لفهم ماهية الإشكالية، والعواقب التي تحيل من معالجتها، خاصة “غير المقصودة”، وبالتالي تقديم الوسائل والحلول المناسبة لها.
وتُقدم كلٌّ من الأسرة والمدرسة، الركيزة الأساسية للتنشئة الاجتماعيّة، دورًا أساسيًا في استيعاب الأولاد لقيم الذكُورة الإيجابيّة، ورسم التوقعات والتصورات حولها، على نحوٍ ما يُساعد في توزيع الأدوار بين الجنسين من منطلق مفهوم المشاركة. ومن ثم يأتي دور الجامعة، التي تتيح للطلاب – أكثر من غيرها وخاصة في اليمن – مجالًا للتفكير النقدي، وتُوفر لهم مساحات أكاديميّة لمناقشة مثل هذه القضايا، وتُشجعهم على تناولها في الأبحاث العلمية، التي سبق أن أشرنا إلى أهميتها.
أما منظمات المجتمع المدني، فتُعد محركًا مهمًا أيضًا للتغيير الاجتماعي والتحرك نحو الذكورة الإيجابيّة، من خلال ما تقدمه من توعية، وتنظيم ورش العمل والفعاليات والحوارات حولها، والتي يجب إشراك الرجال فيها، لأدوارهم المهمة في اتّخاذ القرار على مستوى الأسرة والمجتمع.
يجب أن يعمل أفراد المجتمع جنبًا إلى جنب لتعزيز الذكُورة الإيجابية، لبناء مجتمع أكثر تطورًا وازدهارًا، وأن يسعى كل فرد إلى تقديم أدوار – ولو صغيرة – تخدم هذا الجانب، بالإمكانيات المُتاحة، وألّا تكون تلك الأدوار مجرد حلقة مفرغة من الانتقاد والتذمر، بل جهودًا جادة تعزز من التعاون المشترك، وتعمل على مناصرة القضيّة، للتأثير على الممارسات المجتمعيّة، وصياغة سياسات تمكين المرأة، وخاصة في مجال صنع القرار. ومناهضة جميع أنواع العنف المُمارس ضدها.