عبده تاج
هل كنت تعرف من قبل أن الكثير من الكُتّاب مثل نجيب محفوظ وماركيز وكونديرا قاموا بتمزيق العديد من مسوداتهم كي تظهر كتبهم بذلك التأثير، أو هل تعرف كم تجربة فاشلة قام بها أديسون ليخترع المصباح الكهربائي وإذا عرفنا هذا يجب معرفة أن هؤلاء لم يكونوا في سباق مع الآخرين كما يحصل في عصرنا، فنحن الذين نتصفح وسائل التواصل الاجتماعي ونقرأ قصص النجاح والشهائد والأوسمة ونقول في أنفسنا كل هؤلاء ينجحون كل يوم أما نحن فلا، لا يمكن لنا التفكير بطريقة مختلفة حيال الفشل.
وهكذا عند مطالعتنا لنجاحات الآخرين المستمرة نتوهم أن النجاح ممكن وسهل ومتوفّر دائمًا، وهذه بلا شك نظرة غير دقيقة لواقع الحال فخلف كل نجاح تجارب فاشلة كثيرة وأي ناجح لا بد أن يكون فاشلًا للعديد من المرات وفي أوقات كثيرة.
نجاح بلا قيمة
تؤثر النظرة الغريبة تجاه الفشل على المستوى المهني، حيث تزعزع ثقة الإنسان بنفسه وتجعله يتخذ قرارات مربكة وغير شجاعة، يهرب من احتمالية الفشل إلى النجاح السريع حتى لو كان مؤقتًا وبلا قيمة، فيختفي المعنى والتأثير من ذلك العمل، ويكون السبب وراءه هو إبهار الآخرين بدلًا من قيمة هذا النجاح في حياة الفرد خاصة، وفي المجتمع عامة.
تحصل قصص النجاح سواء المرئية أو المكتوبة على تفاعل كبير واحتفاء، ينبهر منها الشخص دون وعي منه بفردانيته وأنه له طريقه الخاص ونجاحاته الخاصة. وهي التي تأتي نتيجة الفشل للكثير من المرات، كما أن الصورة المثالية التي تظهر الشخص الناجح وتجعله بطلًا ليست محفزّة، بل هي صورة محبطة للإنسان التي تجبره الظروف لأن يمر بالكثير من الهزائم، ويريد مواجهتها بطريقة مثالية كتلك التي تصورها في ذهنه.
لماذا نرفض الفشل؟
على أن هذه الطريقة خاطئة للتعامل مع الحياة وليس فقط الجانب المهني، ففهم جانب واحد من الموضوع يعتبر جهلاً أيضًا، إذ يعتبر في هذا العالم الجديد الشيء المقبول هو النجاح فقط، أما الفشل فلا يعتبر طريقًا للنجاح إنما حالة مرفوضة فكيف سينجح الإنسان دون أخطاء، والشاهد في كلامي أن البشرية طوال كل العصور لم تتعلم سوى من الأخطاء.
أما التعامل مع الفشل وتجاهله في مواقع التواصل الاجتماعي وإبراز فقط نجاحات المرء دون الانتباه لمحاولاته السابقة التي أدت بنتائج جيدة يعتبر تقديم صورة مثالية لحياة من سماتها البارزة النقصان.
ليست المشكلة في الاحتفاء بالنجاح بحد ذاته إنما وعينا بتلقي هذه الأخبار، فنحن لا نسمع قصة واحدة أو اثنتين كما كان يحصل قبل عصر التكنولوجيا، بل نشاهد مئات التعبيرات عن النجاح والحياة المثالية وهذه المعلومات عندما يتعامل معها دماغنا يؤكد لنا بأن هذا الشيء الطبيعي فإذا كان كل هؤلاء الأشخاص ناجحين فلا مجال للفشل في حياة من طبعها النجاح، فنبدأ بمقارنة أنفسنا مع نجاحات الآخرين ونصاب بصدمة وإحباط لأننا لم نحقق الشيء الكافي كي نلحق بسربهم. فكم شهائد معنا وكم أوسمة وكم كتب….إلخ، فإذن نتيجة لهذا تبقى مطالبًا بالكثير من النجاحات.. أنت مطالب كل يوم بنجاح لدرجة أنه لا مجال لفشل واحد.. وهنا تبرز الكثرة على حساب الجودة.
وسائل التواصل والصورة المثالية
ألّف سالينجر روايته الوحيدة «الحارس في حقل الشوفان» وكانت رواية ذات تأثير لم تحققه روايات بالآلاف من معاصريه وبعده، فإذن القيمة ليست بالكثرة، بل بالجودة والتمهل، فالإنسان ليس مطالبًا بتحقيق عدد من النجاحات، بل بنجاحات ذات قيمة مهما كان الوقت اللازم لذلك والتجارب التي أتت قبلها.
يعود السبب في امتلاء مواقع التواصل بالمنشورات المثالية والناجحة رغبة من الإنسان بتقديم نفسه بصورة جميلة للآخر دون اعتبار لأي تأثير آخر قد يأتي بسبب هذا. لذا ليس كل ما في وسائل التواصل حقيقيًا، وهذا يعد خطرًا على الحياة الاجتماعية الطبيعية التي ترى فيها الأشخاص حتى الناجحين على هيئتهم الطبيعية بعيوبهم وأخطائهم ونجاحاتهم، وهذا يعزز فينا أنه مهما فشلنا لابد أن نصل لما نطمح له ويشعرنا ذلك بالأمل.
لكن العكس من ذلك يجعلنا نشعر بالخوف من الفشل وأنه شيء لا جدوى منه، بينما في الحقيقة لا يوجد طريق للنجاح إلا عن طريق الفشل والأخطاء، وإذا لم نتعلم من الأخطاء مما سنتعلم إذن؟
لماذا نخاف من الفشل؟
لكن الإنسان غير المتحكم بوعيه يصير بلا شك ضحية لهذه التصورات المثالية، فيولد لديه ما يمكن تسميته بفوبيا الفشل، فما إن يفكر في شيء ما يقول كيف سينظر لي الآخرين.. وكيف سأبدو أمامهم كشخص فاشل. إذ صار للناس والجمهور بحكم ارتباطنا بمواقع التواصل تأثير على حياتنا الشخصية.. يميل الناس نتيجة لهذا بتقديم حياتهم الشخصية وروتينهم اليومي بشكل جذاب وعناصر مرئية تساهم الفلاتر بإضافة طابع الدهشة والذهول لها، وكما يعتبر هذا تزييفًا للذات وتدميرًا لها يساهم أيضًا في امتلاء مواقع التواصل بكل ما هو كامل فلا يطيق الإنسان حياته المليئة بالأخطاء.
نوبل ومحاولة انتحار نجيب محفوظ
بتنا نخاف من الفشل أكثر من أي عصر سابق مر على البشرية وهذا بالطبع ليس شيئًا صحيًّا، فالخوف من الفشل لا يعني النجاح، بل يعني تقديم نجاحات بلا قيمة كما أسلفنا في كلامنا. ورد أيضا في كتاب «الكبار يضحكون أيضًا» للصحفي المصري أنيس منصور حديث نجيب محفوظ لصديقه أنيس بأنه يفكر بالانتحار. ثم هذا الذي يفكر بالانتحار نتيجة لليأس يحصل على جائزة نوبل للآداب ويصبح إنتاجه العربي وحكاياته عن أزقة القاهرة موضوعًا يُقرأ عالميًا.
هل كلنا نخاف من الفشل؟
لو خاف الناس من الفشل لما رأينا نجاحًا يُذكر في البشرية. لا يمكنني القول إنه لم يعد هناك من يقرأ الفشل من زاوية إيجابية بل يجدر بي الإشارة لتشخيص الوضع الحالي الذي بات الإنسان يخاف من التصريح بفشله، وهذا يؤثر على حياته إذ يرى نفسه بحاجة إلى حياة خالية من الأخطاء، وهذا التصور المليء بالأمل الزائف يجعله يتنكر لكل هبات الحياة التي أمامه.
إذن لماذا نخاف من الفشل؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نفكر كم نجاحًا قرأنا اليوم؟ كم حياة مثالية رأيناها؟ هناك الكثير منهن لدرجة أن دماغنا بدأ يتعامل مع الأمر بأنه قاعدة، وبدأ يستثني الفشل باعتباره شاذًا وأمرّا غير طبيعي، ومن الطبيعي أن نخاف من كل ما هو ليس طبيعيًا.. لهذا نخاف من الفشل نتيجة لأسباب وهمية أو لنقل قراءة ناقصة لما يحيط بنا، فوسائل التواصل لا تقدم الحياة كما نراها بأعيننا، بل كما يحب المرء أن يصورها.
المصادر:
الكبار يضحكون أيضًا – أنيس منصور
عشت لأروي – غابرييل جارسيا ماركيز
الحارس في حقل الشوفان – جون سالينجر