رئيسيشُرْفة

ممنوع الوقوف قليلاً..

كتب/ جمال طه

في المقهى يجلس المضطربون أمام أكواب الشاي لساعات متأخرة من الليل.. يتأملون من كراسيهم على الرصيف حركة الشارع وهي تخطو نحو السكون.. يراقبون أضواء السيارات المتجهة بعيدًا، ويدخنون بشراهة.

تركتُ المقهى باكرًا الليلة.. تجولتُ في الأنحاء.. مضيتُ في الشوارع الفرعية لأتجنب الضجيج ولقاءات الصدفة التي تحتاج للكثير من الاتزان، وحين انتهيت من تمشيط الشوارع الضيقة قليلة الضوء والحركة، عدتُ إلى المقهى.. محاولة أخيرة بكوب شاي أخير قبل العودة إلى المنزل.. ربما يجد هذا الرأس التائه حيلة جيدة يستدرج بها الهدوء.

توقفت امرأة عجوز أمام المقهى.. حصلتُ على وقت كافٍ لتأمّل ملامحها أثناء انتظارها لحفيدها.. الحناء في يديها ما تزال صامدة بعكس الكحل الذي تساقط وتجمّد كشامات صغيرة ومتفرقة حول عينيها.. تجاعيد الزمن المهموم احتل وجه الجدة بالكامل، باستثناء حِدة نظرتها وصرامة ملامحها.
نادت على حفيدها الواقف بصوت واضح لا يمكن للشارع والضجة التشويش عليه، وقالت له: محمد.. امشي.. عيب لا تتوقف.
ما أعرفه هو أن الوقوف مشكلة.. لا أدري منذ متى أصبح عيبًا.. ثم إن الوقوف في حالة حفيدها الصغير فكرة.. الخيال يعني أن نتوقف.. أن نتأمل في التفاصيل البسيطة التي لا ينتبه إليها أحد.. بماذا كان يفكر حفيدها يا ترى وهو يتأمل دوائر إشارة المرور وهي تتنقل ما بين الألوان الثلاثة.. أيّ لون كان يثير دهشته أكثر؟! أو ما هو السؤال الذي كان يبحث له عن إجابه؟!.. كم هو الوقت الذي كان سيستغرقه في التأمل لو أنها لم تقاطعه؟!.
انتبه الصغير لنداء جدته وللمسافة التي قَطَعتها بدونه وانطلق يركض ناحيتها حتى وصل وأمسك بيدها، وغابا شيئًا فشيئًا خلف أشجار الشارع الفرعي.. هل سَتعلَق جملة الجدة في ذاكرة حفيدها؟!.. هل سيكبُر وهو يظن بأن الوقوف أمر معيب؟!.. جميعنا واقفون.. وجميعنا مخطئون ما عدا الطفل الصغير.. كيف يمكن أن نُحيي دهشتنا القديمة بالأشياء.. كل الأشياء.. ما الذي اختلف؟! متى وكيف تغير معنى الوقوف إلى هذا الحد؟!
أريد أن أسأل، لكن كل الوجوه هنا شاحبة وصامتة.. الجميع هنا يفكرون بأحوالهم.. كيف تغير معنى الوقوف إلى هذا الحد؟! لم يعد يتوقف أحد فجأة في منتصف الطريق.. لم يعد يدهشنا أي شيء.. لكن أشياء أخرى تعلمت الوقوف.. الحال أولها..!!
كانت هذه المدينة الملطخة بالهزائم النكراء أكثر المدن ترديدًا لجملة “ماشي الحال”.. كان الجميع يخبئ نكسته خلف هذا الرد كإجابة عن السؤال اليومي “كيف الحال؟”.. كانت هذه المدينة صلبة وجيدة في إخفاء ملامح الهزيمة الكبيرة.. اليوم، وبعد أن تأكد الجميع بأن الجميع قد ناله نفس المصير لم يعد أحد بحاجة للمكابرة.. تغيرت إجابة السؤال إلى “الحال واقف”..!
ربما هذا هو “الوقوف” الذي كانت تقصده الجدة.. من يدري؟!

 

 

 

 

 

 

جـمال طه

جمال طه, كاتب ساخر, لديه العديد من الأعمال وكتابة الإعلانات والمقالات والقصص القصيرة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى