كتبت/ ماريا هائل
إن المشهد ليس مجرد تكوين بصري محايد، بل هو بناء إدراكي يخضع لإعادة تشكيل مستمرة وفقًا للسياق السمعي والوجداني المحيط به.. وفقًا لرولان بارت، فإن “المعنى لا يكمن في الصورة نفسها، بل في قراءتها”، مما يعني أن المشهد لا يمتلك دلالة ثابتة، بل يتحدد معناه من خلال العوامل التي تؤطره، سواء أكانت نصوصًا، أو أصواتًا، أو مشاعر متراكمة في وعي المشاهد.
في حالة تصوير مشهد بسيط، تحضير كوب من الشاي، فإن العناصر البصرية تظل ثابتة: حركة اليد، تصاعد البخار، إيقاع ارتطام الملعقة بالكوب، الضوء المتسلل في الخلفية. هذه العناصر بذاتها ليست حاملة لدلالة محددة، لكنها تدخل في عملية إنتاج المعنى بمجرد أن يُضاف إليها عنصر الموسيقى. هنا، تُصبح الموسيقى عنصرًا دالًا، قادرًا على إعادة توجيه تأويل المشهد نحو اتجاه معين.
إذا أُضيفت موسيقى حزينة، فإن إدراك الزمن داخل المشهد يتغير؛ يصبح أبطأ، أكثر ثقلًا، ويفقد الأشياء طبيعتها المادية المستقلة لتتحول إلى رموز مرتبطة بالذاكرة والمشاعر.
وفقًا لسيوران، فإن “الحزن يضفي على الزمن كثافةً خانقة، كأنه يُغرق كل شيء في بحر من التكرار اللا نهائي”، وهكذا، فإن المشهد البسيط لم يعد مجرد فعل تحضير الشاي، بل أصبح استعارة للانتظار، للفراغ، لزمن عالق في حلقة مفرغة. البخار لا يعود مجرد ظاهرة فيزيائية، بل يصبح تجسيدًا للزوال، واليد التي تحرك الملعقة تصبح فعلًا وجوديًا، كأنها تحاول تثبيت الزمن أو كسره.
على النقيض، إذا استُخدمت موسيقى مبهجة، فإن الزمن داخل المشهد يتسارع، والألوان تكتسب كثافة دافئة، وتتحول التفاصيل العادية إلى علامات على الاستمرارية والحياة. هنا، لا يصبح تحضير الشاي طقسًا ثقيلًا، بل فعلًا يحمل طاقة متجددة، تنتمي إلى دورة الحياة اليومية، حيث لا يُنظر إلى التفاصيل كأشياء مستقلة، بل كجزء من إيقاع حيوي متصل. في هذا السياق، الموسيقى ليست مجرد خلفية، بل هي ما يمنح العناصر البصرية معناها النهائي.
لكن إدراك المشهد لا يقتصر على زاوية واحدة. هناك إمكانية لتوسيع مجال الرؤية، لإعادة قراءة المشهد من منظور خارج ذاته، من خلال عدسة تتجاوز حدوده الزمنية والمكانية. إذا ما توسعت العدسة تدريجيًا، فإن التفاصيل تفقد مركزيتها، والمشهد يصبح نقطة ضمن شبكة أكبر، حتى يصل إلى مرحلة تضاؤل مطلق، حيث يختفي العنصر البشري داخل فضاء لا نهائي. وفقًا لبارت، فإن “المعنى يتشكل عند نقطة التقاء الذات مع العالم”، لكن ماذا لو انسحبت الذات من المشهد؟ هل يظل للمعنى وجود؟ أم أن المشهد يصبح مجرد صورة فارغة، لا تُرى إلا من الخارج؟
هذا التبدل في الإدراك يضعنا أمام إشكالية المسافة: هل ينبغي أن نقترب لنعيش التفاصيل، فنمنحها معناها الكامل؟ أم نبتعد حتى نرى الصورة الأوسع، حتى نفهم المشهد ضمن منظومة أكثر شمولًا؟ أم أننا عالقون في المسافة بين القرب والبعد، في تلك المنطقة الرمادية التي لا ينكشف فيها المشهد تمامًا، ولا يختفي بالكامل؟
هكذا، يصبح المشهد ذاته فضاءً لتأويل لا نهائي، يتغير بتغيُّر السياق الموسيقي، ويتحول حسب المسافة التي نختارها لرؤيته، مما يعيدنا إلى الفكرة الأساسية: هل الحياة مشهد قائم بحد ذاته، أم أنها مجرد بناء إدراكي متغير، تحدده الموسيقى التي نسمعها، والزوايا التي نقرر أن نراها منها؟