كتبت/ أماني المقطريتلعب الأم الدور الرئيسي في الأسرة، ولها التأثير الأكبر في حياة وشخصية ابنتها/ بناتها، وفي تعزيز العادات التي تؤثر في بناء شخصياتهن وتحديد مسار حياتهن في المستقبل، كما أن للأم الدور الأهم في زرع المفاهيم الاجتماعية لدى الفتيات التي تعمل على تعميق فهمهن للحياة والأسباب الحقيقية من مغزى وجودهن.. ليس هذا فحسب، فدور الأم في حياة الابْنة لا يقتصر فقط على ولادتها وتعليمها أساسيات صنع عجينة لينة تستطيع تشكيلها للخبز بسهولة، ولا معايرة الملح في الأكل، والسكر في أكواب القهوة التي تقدمها الفتاة للنساء الزائرات من أجل إخضاعها لاختبارات الأنوثة والجمال بحسب المعايير التي وضعها المجتمع، بل يمتد دورها لِما هو أعمق من ذلك بكثير؛ إذ يُفترض أن تكون هي الحامية لحقوق وحريات ابنتها/ بناتها، وأن تكون الأم حِصنًا منيعًا تتحامى به الفتاة أمام ظواهر وأزمات تكتنف مجتمعاتنا، وسلاحًا تواجه به بيئة عامة محتقنة بالعادات والتقاليد الموبوءة، والتي تحمل في جوفها ضروبًا من أشكال التعنيف ضد الفتيات.
وفيما يخص الأم اليمنية، والتي غالبًا ما تكون قد نشأت في بيئة وظروف قاسية، ولّدت عندهن قابلية التكيف مع مفاهيم الاستعباد والخضوع، وحصرتها في أدوار لا تخرج عن جدران المنزل وحدود المزرعة والطريق المؤدية للبئر في حال أنها نشأت في القرية، أما إذا كانت فتاة مدينة فأدوارها لا تتجاوز مهام المنزل، وفي حال كان الحظ حليفها، فالتعليم الأساسي هو الحق الضئيل الذي ستحصل عليه. وفي كلا الحالتين ستصبح شخصيتها ذات طابع تقليدي، تخدم في البدء الذكور في أسرتها، ومن ثم تخضع لزوجها، ذلك الخضوع الذي سيمحي وجودها بوصفها كيانًا مستقلًا له حقوق، وواجبٌ احترامه وتمييزه عن القوالب التي تقدمها؛ باعتبارها مجرد ملحق أو تابع بكيان آخر. وهكذا، تظل الدائرة تدور في حياة المرأة اليمنية، بدءًا من الجدة، فالأم، فالابنة.
أنا هنا لا أعترض عن قيام المرأة بمهام المنزل، فالطبيعة الأنثوية غالبًا ما تكون هي الطاغية، حيث إننا – جميعًا – كنساء نرغب وبشدة أن نصنع قالب كيكة بوافر من الحب، ولكن اعتراضي في هذا المقال، والنقاط التي سأركز عليها وأراها مجحفة وظالمة، تتمثل في حصر الفتاة في أدوار فرضها المجتمع، وأصبحت مُلزَمة وفي سنٍّ مبكر بالخدمة المنزلية، وهو الأمر الذي شجعت عليه كثير من الأمثال الشعبية والأقوال التي تداولها المجتمع، كأحد الأبيات، والتي كانت شارة لأحد المسلسلات الإذاعية اليمنية القديمة، حيث يقول: “البيت المَرَة والحبّة الذُّرة، قولوا لمسعدة تِربِّي الجهال ومسعد تسعده” في إشارة إلى دور المرأة المحصور في مهام المنزل وتربية الأطفال والمهمة الأساسية التي دائمًا تحرص الأمهات على نصح ابنتها تتمثل في إسعاد الزوج، والمثل هنا وإن كان يعكس صورة إيجابية في استقامة المنزل بوجود المرأة، إلا أن سياقه العام وفي الوقت الحالي، ينفي هذا الجانب ولا يدعمه. بالإضافة إلى المثل الذي يشجع على الزواج المبكر، وهي القضية الأزلية التي كان وما زال المجتمع اليمني يعاني منها، حيث يقال “زوِّج بنت الثمان وعليَّ الضمان”، وفي المثل إيحاء إلى أن الفتاة تعتبر مصدر قلق لأهلها، وبالتالي يتجه الأهل إلى تزويجهن بسن مبكر، وهو أحد أبشع صور التفريط بحياة كاملة لطفلة كان يجب أن تحظى بحياة عادلة، تعيش كامل مراحلها بما يقتضيه عمرها، دون وضعها في خانة الالتزامات المبكرة، وأن تحصل على حقها في العلم واختيار طريقها العلمي والمهني، دون أن تجد نفسها مجبرة على ملاحقة يوم ثقيل يبدأ بعمل أقراص الخبز وينتهي بحل الواجبات المدرسية بأعينٍ ذابلة وجسد صغير منهك.
وعليه، تنتشر كثير من الأمثال الشعبية اليمنية والعربية، والتي تعمل على تثبيط أدوار النساء، وإحباط الفتيات.
فمع العادات والتقاليد المختلفة بسلبياتها وإيجابياتها، تسعى الأم اليمنية إلى صنع نسخٍ متكررة عنها داخل البيت الواحد، سواء أكانت على حق أم لا، من وجهة نظر الحياة والأفراد، وسواء رغبت بناتها بذلك أم لا.
قد تنجح الأم في بعض الأحيان في إقناع إحدى بناتها بقبول نسختها، وقد تفشل في أحايين كثيرة، وهنا تخوض الفتاة التي ترفض تلك النسخة صراعًا طويل الأمد، بين رغبتها في الحفاظ على الود بعلاقتها مع والدتها، مع الاحتفاظ في حقها في تطوير نسختها الخاصة، وبين قبولها لوضعها كفتاة “عاصية” في نظر والدتها والدِّين والمجتمع من حولها.
كنت رفقة صديقين في أحد الأيام، كنا نقف في أحد المتنزهات المفتوحة المطلة على الميناء في عدن، كانت تتداخل الأصوات من حولنا. مجموعات متفرقة من النساء العدنيات اللاتي خرجن في ذلك الوقت الباكر من المساء لتبادل أطراف الحديث، وكَوني امرأة، أكاد أجزم بأنهن هربن في ذلك الوقت من حيطان منزل أساسه مهترئ، ضاقت بهن. ومن الناحية الأخرى، نسمع صوت الرياح على سطح المياه الساكنة، وكأنها تهمس له بأسرارهن جميعًا، كمحاولة لحمل أوجاعهن. لا أتذكر بدقة تفاصيل الحوار الذي كان بيننا، ولا أتذكر اسم المكان أو موقعه؛ كَوني جديدة في هذه المدينة، ولكنني أتذكر تمامًا أن ما كسر ذلك الصمت هو حديث صديقي عن والدته الراحلة، المرأة التي تجاوز وعيها حدود الواقع (الزمان والمكان) الذي عاشته، والتي – وعلى عكس العديد من الأمهات العصريات – لم تحاول أن تخلق من ابنتها الوحيدة نسخة عنها وعن العديد من بنات جيلها.
يروي صديقي وبلهجته الإبّية المليئة بالبلاغة، أحد مواقف والدته مع ابنتها، حيث لم تسمح لها بأن تجعل من نفسها مجرد فتاة تعمل في المنزل، بل إنها – وبحسب حديثه – وعلى عكس الكثير من الأمهات اليمنيات، منعتها من ذلك، وأجبرتها على الخروج إلى الحياة والاهتمام بتعليم وتطوير نفسها، حتى إنها أصبحت الآن دكتورة جامعية درستُ على يدها يومًا ما.
هذه المروية القصيرة، جعلتني أتساءل عن مصير العديد من الفتيات اليمنيات اللاتي عشن في ظروف معاكسة تمامًا، حيث أُجبِرَت العديد منهن على القيام بأدوار جندرية صارمة حددها لهن المجتمع، والتي تُختزَل بأعمال المنزل والمطبخ، والرعي وجمع الحطب. وهنا يظهر دور الأم اليمنية كشخصية محورية في إعادة انتاج تلك الأدوار، حيث تتحول الأم من راعية لحرية ابنتها وشخصية رئيسية في صقل شخصيتها إلى أداة لترسيخ الخضوع وحشرها في دائرة لا تنتهي من الصراع الأبدي.