كتب / عبدالرحمن الزراف
“والليلة العيد وانا من بلادي بعيد”..
لا يزال الرحيل والاغتراب قرين اليمنيّ منذ كان، كلما ضاقت به البلاد، أو ضنّت عليه، وأبرز ما يخبرنا به التاريخ في هذا موجات الهجرات التي أعقبت انهيار سدّ مأرب، والذي كان تتويجًا للانهيار والتشظي الاجتماعي والسياسي.
لكنّه رحيل لا يتنكر للجذور، ولا يقطع الصلة بها، وإن كان بلا عودة، بل يمتدّ منها، وينتمي وينمو بها، فقد حمل اليمنيون أسماء مناطقهم معهم، وأطلقوها على أماكن الاستقرار الجديد.
أمّا الرحيل والاغتراب المؤقت، فقد كان اضطراريًّا، كما يعلله المأثور اليمنيّ: “عزّ القبيلي بلاده، ولو تجرّع وباها.. يسير منها بلا ريش، ولا مِلك ريش جاها”.
ولعلّ أحدًا لم يقترب من الوجدان اليمنيّ، ويصوغه كما فعل مطهّر الإرياني، ما جعل البردّوني يفرد لتجربته فصلاً كاملاً في كتابه “فنون الأدب الشعبي في اليمن”، بعنوان: تحوّل الأغنية الشعبية على يد مطهّر الإرياني.
يقول البردّوني: لقد تدفق مطهر الإرياني من روح الشعب ولغته وشكليات أهازيجه، وأحدث تحولاً شعبيًّا غنائيًّا؛ لأنه صدر في إبداعياته من إبداعيات الشعب، من أمثال قصيدة “الباله”، فهي امتداد للفن الشعبي العريق “الباله”، ومن أمثال “فوق الجبل”، فهي امتداد للرزفة الحاشدية، ومن أمثال “يا دايم الخير”، فهي امتداد متطور لأشعار مهاجل علان، ومن أمثال “ألا جينا نحييكم”، فهي تجديد لأشعار الحال.
لمحة عن فنّ الباله:
“الباله” إحدى الفنون الشعبية الفرائحية، في المناسبات الاجتماعية والدينية، كالأعراس والأعياد.
وتقوم فكرتها على المساجلة الشعرية والرقص رفقة أصوات الطبول.. يقف المشاركون في الباله في صفين متقابلين ككورال، ويرددون:
يا باله الليل يا باله
ويا باله الليل بال
فيما يجلس الشعراء وبقية الحاضرين كجمهور.
يفتتح اللعبة الشاعر الأمهر، ويجاريه البقية بذات الوزن والقافية حتى نهاية اللعبة التي قد تمتد لساعتين.
حكاية الأغنية:
في إحدى المقابلات الصحفية يروى الأستاذ مطهر حكاية الأغنية، ويقول: وأنا طفل صغير كان في قريتنا شخص اسمه أحمد ظافر، وكان كبيرًا في السنّ، وكانت أمه أمًّا لنا كلنا، وكنّا نسميها الجدة قبول بنت العنسي، وفي لحظة متبادلة سألتها: أين ظافر؟ فقالت: هجّ “هاجر ضنكًا” هججوه القضاة والمشايخ.
فقلت: إلى أين سافر؟ فقالت إلى الحبشة.. والله يا ابني إنه ذهب وما في جيبه إلا قرصين فطير (خبز بلدي)، وليس لديه ما يصرف منه.
عندما سمعتها وشاهدتها تبكي وأنا طفل صغير بكيت معها، وظلت حكايتها مؤثرة في نفسي إلى أن شفيت غليلي منها في “الباله”.. إلى حد أنه من كان يسمعها في قريتي يقول: مسكين مطهّر كم تعب وكم سافر وهاجر، وكأنني أنا الذي هاجرت.
يقول البردّوني:
“قد جدد شاعرنا “الباله” وحوّل وجهتها فنيًّا، من دائرة العشيرة، إلى الوجهة الشعبية، ومن عوائد قرية أو قرى إلى تاريخ شعب كامل.
وجعل العصير الشعبي يترقرق من أعطاف القصيدة كلها، وأفصح عن لسان المغترب فأرخ من خلاله مأساوية الشعب اليمني في ظل الاستبداد وضياعه تحت ظروف الغربة المتقلّبة.”
ويمكننا هنا أن نتساءل:
لماذا انطلق الإرياني من فنّ “الباله” تحديدًا ليعبّر به بلسان المغترب وعنه.
وهو السؤال الذي تتوّخى السطور التالية الإجابة عنه، أو تحاول.
يقسّم مطهّر الإرياني القصيدة/ الأغنية إلى لوحات أو مشاهد مسرحيّة، وهو في المسرح الشعري أستاذ، كما رأينا في مطولته “ملحمة الريف” التي لم يغنّ منها سوى مقاطع، للأسف.
(والليلة البال ما للنسمة السارية
هبّت من الشرق فيها نفحة الكاذية
فيها شذى البُنّ، فيها الهمسة الحانية
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية)
هذا الافتتاح يصوّر مشهدًا لمغترب في أوّل الليل ربما، تداعب وجهه النسائم القادمة من جهة الشرق حيث بلاده.
فتحمل معها روائح البلاد “الكاذي والبنّ” وتوقظ ذكريات الصبا والحنين فيه.
وطالما كانت الرياح والنسائم رسول الغرام ومرسال المحبين في الموروث الغنائي اليمنيّ، من مثل:
(يا ريح يا ريح يا اللي تدخلي للبيوت
قولي لمحبوب قلبي صاحبك با يموت).
لكن الهبوب والتداعي في المشهد السابق له إطار وظرف زمني حدث فيه، يخبرنا عنه المشهد الذي يليه:
(والليلة العيد وانا من بلادي بعيد
مافي لقلبي لطوفان الأسى من مزيد)
تبدو الصورة الآن أوضح!
ليلة العيد هي التي هيّجت أشواقه للبلاد وبعثت ذكرياته، ذكريات الصبا ولعبة “الباله” إحداها، ما جعله يصوغ حنينه على منوالها وقالبها الشعري، كما كان يسمعها في ليالي أعياد صباه، كأن بين الباله والعيد ارتباط شرطي عنده.
في المشهد الأول بداية التذكر، كانت الأصوات الفرائحية للعبة الباله التي خُيّل إليه أن النسيم القادم من البلاد حملها إليه، كأنها “همسة حانية” أفرحته، لكنه فرح لحظي ما يلبث أن يصبح “طوفان أسى” يغمر فؤاده ويغرق به كلّه، فتحضر بلاده في باله بأبهى حلّة، أودية خصبة وخضراء، في مقابل حياة الغربة الباهتة التي يحياها:
(قلبي بوادي بنا وابين ووادي زبيد
هايم، وجسمي أسير الغربة القاسية)
بعد هذا الاستهلال البكائي، يعود ليتذكّر متى كان خروجه من بلاده ويعدد أسباب ذلك الخروج:
(خرجت أنا من بلادي في زمان الفنا
أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا
وماتوا أهلي، ومن حظّ النكد عشت أنا
عشت أزرع الأرض واحصد روحي الذاوية).
يؤرخ لخروجه بطاعون أو جائحة مات فيها أكثر الناس حتى كادوا أن يفنوا “زمان الفنا” على طريقة اليمنيين في التوثيق بالأحداث الكبرى بربط السنين بها، من مثل “سنة الرامي” التي أرخوا بها لمرض يميت الأبقار، و”سنة الذخف” التي أرخوا بها لمجاعة أكل الناس بسببها “الذخف”، وهو نوع من الأبصال البرية التي يُحدث أكلها حرقانًا وهياجًا في المعدة.
ومن مثل “زمان النفر” الذي شاع فيه الجوع للارتفاع الكبير في أسعار الحبوب.
كان خروجه في أيام مرض عام أفنى الناس أو كاد، وجدب وضيق حال، تمنى الناس بسببه الموت وحسدوا من ماتوا عليه.
سبب آخر يضيفه للأسباب السابقة، هو “عسكر الجنّ”: أداة البطش لسلطة الاستبداد والجباية والنهب.
تعبير “عسكر الجنّ” يعكس الصورة المخيفة التي تكرّست في أذهان اليمنيين لعسكر الإمامة وعكفتها ويدها في السلب والتنكيل:
(ذكرت أخي كان تاجر أينما جاء فرش
جوا عسكر الجنّ شلوا ما معه من بقش
بكّر غبش.. أين رايح؟ قال أرض الحبش
وسار، واليوم قالوا حالته ناهية).
في هذا المشهد سبب آخر، هو القدوة أو المثال، وهو هنا الأخ الذي حين ضاقت به البلاد تحت حكم الطغاة، هاجر إلى الحبشة فتحسنت ظروفه، فمشى ذات الطريق:
(بكّرت مثله مسافر، والظفر في البُكَر
وكان زادي مع اللقمة ريالين حجر
وابحرت في ساعية تحمل جلود البقر
والبُنّ للتاجر المحظوظ والطاغية).
بعد الوصول يواجه مشكلة العمل، وصعوبة الحصول عليه:
بحثت عن شغل في الدكه ومينا “عَصَب”
وفي الطرق والمباني ما وجدت الطلب
فيستعين بجماعته الذين سبقوه إلى بلاد الغربة، ونلاحظ أن اليمنيين في كل محطات اغترابهم يعيشون معًا في مجتمعات أو تجمعات خاصة يأنسون فيها ببعضهم، ويستأنسون:
(شكيت لاخواني البلوى وطول التعب
فقالوا البحر، قلت البحر وا ساعية).
(وعشت في البحر عامل خمستعشر سنة
في مركب اجريكي أعور حازق الكبتنه)
منذ البداية والتفاصيل حاضرة بكثرة.
روائح الوطن: البن والكاذية، وزاد الرحلة: لقمة وريالين حجر، وحمولة السفينة: البن وجلود البقر.
وحتى الشهران اللذان قضاهما بحثًا عن عمل.. نعرف أو نستطيع تخيّل كيف قضاهما في “الدكه ومينا عصب والطرق والمباني”
لكننا نجد انتقالة هذا المشهد تصف الغربة بأنها:
“خمستعشر سنة”!
هكذا دفعةً واحدة، خمستعشر سنة قطعةً واحدة، خمستعشر سنة فقط، بلا ملامح ولا تفاصيل، وبلا أحداث مختلفة أو مهمة، بلا حياة، بلا شيء يستحقّ الذكر.
كأنها “خمستعشر سنة” مفقودة أو مستقطعة من العمر، لم يشعر بمرورها، ولا تذكره بانقضائها سوى الأعياد.
أعوام بلا ملامح ولا طعم، وبلون السواد الوحيد حقيقة ومجازًا، شعورًا وحياة:
(وسوّد الفحم وجهي مثلما المدخنة
وطفت كم يا بلوّد أرضها قاصية).
(مثل الطيور القواطع طفت كلّ الجزر).
من هذا التشبيه بالطيور المهاجرة جاء الحنين والشوق، وأتت معه أمنية المشهد التالي، فالطيور تهاجر نعم، لكن لتعود:
(ياليت والبحر الاحمر ضاق ولا اتصل
جسور تمتدّ عبر الضفة الثانية)
وتصل الأغنية ذروة البكائية في هذا المشهد الذي يعلل فيه بكاءه، ويستدرّ دموعه ويستزيد من غزارتها، فإذا نفد ماء العين، مدّه دم القلب:
(من كان مثلي: غريب الدار ماله مقر
فما عليه إن بكى، وأبكى الحجر والشجر
إبكي لك ابكي، وصبّ الدمع مثل المطر
ومن دمّ القلب خلي دمعتك جارية)
في خضم هذا النشيج والحنين والتداعي الباكي، وفي الغربة القاسية “السوداء” التي صار فيها العمر مجرد رقم “خمستعشر سنة” بلا معنى ولا هوية، تحضر صورة البلاد الأشد قتامة تحت حكم الطغاة وأسواط وبنادق “عسكر الجن”، الصورة المأساوية التي جعلته يصبر على مرارة الغربة لأنها البديل الأمرّ.
تتمخّض لحظة الأسى هذه عن دعوة كأنها زفرة عامة، كأنها لسان حال ومقال جميع اليمنيين، في الداخل والشتات، وقد ضاقت بهم السبُل، واسودّت أمامهم الخيارات، وخاب لهم كل رجاء، ما ثمّ إلا باب واحد:
(يا الله لا هنتنا!)
لا هنتنا في بلادنا التي يحكمها الطغيان، ولا في المنافي التي التجأنا إليها.
فكأنما يلوح له الأمل من باب السماء المفتوح هذا، ويغدو الاتصال معها عتبة تهدأ عليها النفس، وتطمئن فتحلم وتقرر:
(راجع أنا يا بلادي يا ديار الهنا
يا جنتي يا ملاذي يا امي الغالية)