رئيسيشُرْفة

الفنُّ وعلاقته بالدين

كتبت/ لمياء الشرعبي


في كتاب الإسلام ما بين الشرق والغرب لـ “علي عزت بيجوفيتش”، يستخدم المؤلف الفن كمؤشر لإثبات صحة الدين في قضية أصل الإنسان، وقضية وجود الله، حيث يربط المؤلف الفن بالدين بزاوية جديدة ليست الأولى، لكنها تشكّل اختلافًا عن الدلالات التي يقدمها علماء الدين، والتي تنفّر الناس من الدين أحيانًا أكثر مما تثَّبتهم وترغبهم به، وهي زاوية قد تكون أقرب لدحض نظريات الانتقاء الطبيعي.

يأتي في سياق الكتاب أن الفن ممكن فقط إذا كان الإنسان مختلفًا عن الطبيعة وغريبًا فيها، أي أن الإنسان المادي الذي يزعمه العقلانيون، حسب نظرية التطور الداروينية لا يتوافق مع الخيال الذي يولّد الفن، وأن مصدر كلٌّ من الفن والدين هو وجود عالم آخر للإنسان، حيث يقول: “في الحقيقة سنجد في كلّ عمل فني إيحاء ما إلى عالم لا ننتمي إليه، ولم نخرج منه، وإنما طرحنا فيه طرحًا، والفن ذكريات أو توق إلى الماضي، إلى ذلك العالم الآخر”.
فما تحاول دحضه الحضارة الغربية من الانتماءات الدينية والعبادات يفسره علي عزت بيجوفيتش في الداور الميتافيزيقي، وهو أنَّ الإنسان أصيب بداور مجهول الهوية، ولم يقتنع بجانبه الحيواني المادي، ولذلك بدأ بمعارضته للطبيعة التي لم يكن جزءًا منها، فلو كان جزءًا منها لما عارضها ولما نشأ له إحساس باللعنة والمحرمات والنجاسات.
هذا العِداء جعل الإنسان يبحث عن جانبه الآخر من حيث ابتكار العبادات والفنون وغيرها من الروحانيات التي تربطه بعالمه الآخر.
على المستوى التاريخي تدور كل أفكار العالم حول قضية أصل الإنسان، من أين أتى الإنسان، ومن هو سبب الوجود الأول؟.
في أحقابٍ معينة من الزمن ظهرت الأديان لحلّ هذه التساؤلات، وقدمت تفسيرًا واضحًا عن وجود الإنسان عرَّفته بخلق الله لأدم في السماء، ومن ثمَّ هبوطه إلى الأرض الذي كان ناتجًا عن الخطيئة المذكورة في الكتب السماوية، لكن هذا التفسير لم يُقنع العقلانيون الذين يبحثون عن براهين ملموسة وعلمية لأصل الإنسان، لتبقى قضية وجود الإنسان عبر تدخّل الله وعدمه لغزًا جوهريًّا بالنسبة لهم، قائم على الصراعات الفكرية بين الدينيين واللا دينيين.
في عام 1859، نُشر كتاب داروين “أصل الأنواع”، وهو الذي ينسُب أصل الإنسان لعمليات التطور التي حدثت عن طريق الانتقاء الطبيعي، أي أن الإنسان تطور من فصيلة القردة العليا (الهومينيد)، ليكون بمثابة حل هذا اللغز الذي يبحث عنه الماديون، ما جعل هذا الكتاب حديث الساعة في أوساط البيئة العلمية في الغرب، وأصبح معتمدًا في الوسط الغربي بشكل كبير، لكن التطور الذي يُقر به داروين يشكل انتهاكًا لكيان الإنسان؛ حيث يهدم الأسس التي تقوم عليها النفس الإنسانية، في عملية تقويض لوجود الروح، وهو من المفارقات العجيبة مع الفن، فالفن يعني الابتكارات الذهنية والخيالية التي تخضع للإحساس والمشاعر، ولا تخضع لأي تفسيرات مادية، وهي مؤشر قوي لوجود تعريفات وضعها الله في عقل الإنسان، هذه التعريفات ترشد الإنسان للاختراعات والابتكارات، وتتناقض بشكل كبير مع النظرية المادية لداروين.
وفقًا لبيانات دراسية لمركز نيو للأبحاث عام 2019، فإن نسبة الناس الذي يؤمنون بنظرية الانتقاء الطبيعي تبلغ حوالي (81%)، تتقسم النسبة إلى (33%) الذين يقولون إن البشر تطوروا بسبب عملية الانتقاء الطبيعي دون تدخّل من الله، إلى جانب (48%) إن الانتقاء الطبيعي لنظرية التطور حدث من خلال أساليب وعمليات يرشدها الله أو قوة عليا.. نجد هنا، أنه بالرغم من التقدم العلمي الهائل للغرب إلاَّ أنَّ أغلبية كاسحة منهم تؤمن بوجود قوى أعلى بغض النظر إذا كانت هذه القوى تتعلق بالأديان، سواء المسيحية أو الإسلام، أو أي ديانة أخرى، وهو ما يفسّر تعلّق الإنسان بجانب مجهول، قوى خفية تتحرش بجوانبهم الروحية والإبداعية، فالفن يتغذى من الجوانب التأملية.
في كتاب البوذية لـ “داميان كيون” في الديانة البوذية التأمل هو الأكثر شيوعًا في الفن البوذي، ويوجد ارتباط وثيق ما بين التأمل والتنوير، وكانت أساليب التأمل التي يستخدمها بوذا في وضعية القرفصاء جزءًا من أساليب روحانية تتشارك بها الأديان الأخرى، الأمر الذي يفسّر أن ارتباط الإنسان وحنينه للعالم الخارجي الذي يوجد فيه الله، هو ارتباط أزلي منذ أن وُجدت البشرية على الأرض، فالأديان وُجدت مع الإنسان.

في كتاب عالم صوفي لـ جوستاين غاردر، وهو كتاب يحوي نظريات جميع الفلاسفة، وتفسيرًا لنظرية فرويد يشرح المؤلف أن في عام 1924، نشر أندريه بروتون بيان السوريالية الأول (المانيفستو)، وأعلن فيه أن الفن ينبثق من اللا وعي، وعلى الفنان أن يجد في الإيحاء الأكثر حرية، صورًا حلمية، وأن يميل نحو سوريالية لا حدود فيها بين الحلم والواقع.
إذًا، إن الكُتّاب والفنانون كانوا يحاولون استنباط القوى اللا شعورية في عملهم الإبداعي، فالحلم والفن مرتبطان بعالم ليس ماديًّا، وهي صلات تنتمي لجانب الإنسان الآخر، وهو العالم الروحاني، الذي يجعل الإنسان يبدو غريبًا على الطبيعة ودخيلاً عليها.
في كتاب الفن والمجتمع لـ هربرت ريد، يذكر المؤلف أن الفن هو وسيط بين العالم الروحاني الخارجي والعالم المادي الطبيعي ويربط الفن ارتباطًا وثيقًا في الدين، ولكي نستدل بهذا اقتبستُ هذه العبارة للمؤلف “الآن وقد دخل العمل الفني حوزة عملية التفكير المنطقي وفي سياجها أصبح الفن بين دنيا الظواهر الطبيعية وعالم الموجودات الروحية”.
وهناك عبارة للفيلسوف هيجل تقول: “إن الميل الفني، وكذلك الابتكار الفني يتطلبان بصفة عامة طاقة جوهرية لا تكون فيها الحقائق العامة جامدة شبيهة بقانون أو قاعدة، وإنما تكتسب هذه الحقائق فعاليتها بالاتحاد مع النفس والانفعالات”، وهذا يشير إلى الأصل الجوهري للفن وهو الروح، وهو ما لا يتوافق مع النظرية المادية التي تتعامل مع الإنسان كقاعدة رياضية وفق مبرهنات علمية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى