كتـب/ غسان خالد
خارج منطق صناعة السينما الأمريكية التي تُرسخ لبطل وحيد وخارق، والسردية الهوليودية الناعمة، ثمة سينما مختلفة، تنتمي إلى فئة (السينما البديلة)، تستحق أن تروى وتأخذ أحقيتها من المشاهدات العالية والجوائز، من بينها فيلم الدراما التاريخي، الدنماركي “أرض الألغام” (Land of Mine)، 2015، سيناريو وإخراج الدنماركي (مارتن زاندفليت).
يحكي الفيلم عن أربعة عشر من الجنود الألمان، جميعهم من الأطفال، جنّدهم هتلر في جبهة الدنمارك، وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، تم إجبارهم من قِبل الجيش الدنماركي على إزالة مليوني لغم أرضي من الساحل الغربي لبلادهم، تحت إشراف أحد رقباء الجيش، الذي أظهر جرعة كبيرة من القسوة، ثم تحول إلى إبداء تعاطف مع الجنود الأسرى.. انتهت المهمة بنجاة أربعة جنود ألمان فقط، عمل الرقيب على عودتهم إلى بلادهم، معرّضًا نفسه للخطر، ولأقسى درجات العقاب المتوقع.
حقق الفيلم نجاحًا باهرًا، عُرض في مهرجانات عالمية مهمة، وحصد أثني عشرة جائزة.
هل تدفع الأجيال اللاحقة ثمنًا كافيًا مقابل ما أوقعته الحرب؟!.
في الحرب يفرض المنتصر شروطه، بل ويعود بصيغة الانتقام، ويتجاوز شناعة الممارسات التي تعرض لها.. الطفولة هي أول ضحايا هذه الآلية، مع مرور الوقت، وبعد فوات الآوان، يكتشف المنتصر أن عدوه ليس شخصًا، ولا جهة، ولا جغرافيا، إنما فكر الشر النائم في مكانٍ ما على هذه الأرض.
ذلك ما فهمه الرقيب، وفهمته الأم الدنماركية التي تعيش مع طفلتها في قلب حقول الألغام، حين وقعت طفلتها داخل منطقة الخطر، إذ استعانت بأعدائها المفترضين لتخليصها بأمان.
كان السيناريو بسيطًا وجميلاً، متممًا للصورة. ابتدأ من نقطة توقيف الجندي الألماني، ساعد الصورة على الإحساس بفكرة اتجاه الفيلم. الحوارات قليلة وغير مهمة، حيث سلطة الكلام من مهام الأعلى، وعلى الجنود الأسرى الاستماع فقط، وتنفيذ الأوامر، والاستسلام والزحف وحبس الأنفاس.
المونتاج الإيقاعي هو السائد، والترقب هو الطابع الغالب، في أيّ لحظة يمكن أن يتعرض أحد ما للخطر، ويتلاشى في مواجهة الألغام الثنائية/المركبة، التي لا تترك مجالًا للنجاة والعودة إلى منازل الأمهات حيث الحساء الساخن للبيوت في قلب برلين الباردة.. في موازاة ذلك تتناوب الموسيقى التصويرية بتقطع مناسب على هيئة رشقات لقرع أجراس الكنائس، وتارة على هيئة صوت احتكاك قطار على القضبان، تدخل المشاهد في حالة من الترقب والانشداه من أن شخصًا ما سوف يُسحق الآن، وسترفعه أجراس الكنائس إلى الأعلى، وقد تلاشى أجساد التوأمان الأسرى في الرمل.
تميّز مخرج الفيلم وفرض رؤيته الفنية والفكرية. بدأت وتيرة الفيلم عالية ذاهبة إلى الأمام بطريقة تحبس الأنفاس في رئتها المضطربة. تلك هي خطة سير حياة، حتمًا سوف يسقط منها الضعفاء من الأقوياء والجبناء، حتى الذين يعرفون دورهم تمامًا في الحياة، يتظاهرون إزاء ذلك بعدم الفهم، (هذا ما يعتقدونه صحيحًا بالطبع).
في ذروة الفيلم انكسر الاتّجاه التصاعدي إلى أسفل واقع ممل.. يلعب رقيب الجيش مع الجنود كرة القدم على الرمل، بضحكات عالية، ومشاعر صادقة لا تُعبّر عن وجودهم تحت إشرافه كأسرى حرب، يفترض بهم الموت في حقل ألغام صديقة، أو الموت في مساحات مفخخة في مناطق أخرى من البلاد.
كان الوعد بعودتهم إلى برلين هو استدراج سريع إلى الموت، لا شيء من ذلك سوف يحدث، وفي هذا التوقيت المربك وصل اثنان من الجنود الأسرى، أكثر خبرة، كان وصولهما في هذه اللحظة الاحتفالية غريبًا، لكنه مهمًّا. هذا الفاصل المراوغ الذي يخفض التوتر إلى أدنى مستوياته، يوحي بعبثية
الحياة، حتى في الحروب والعداوات، وفي قلب الموت ثمة لحظات صادقة، تجعلنا نهرب من كل ما تثقلنا به الحرب، نلقي به جانبًا، ونتوغل في لحظات بسيطة ومرحة وإنسانية تكشف عن حاجتنا الجوهرية المشتركة.. ذلك لم يستمر، سرعان ما عادت الأحداث بشكل صادم، وأكثر توترًا، أخذت منحى آخر في تلك اللحظة التي طوح فيها الرقيب بكُرة صغيرة بعيدًا، ليركض كلبه للحاق بها، فمزقه لغم أرضي في المساحة الممسوحة من قِبل الأسرى، فعادت شراسة الرقيب الدنماركي أكثر ضراوة وعدوانية.
براعة التمثيل ارتقت بالجانب الأهم والأساسي من الفكرة، عن طريق إظهار المشاعر وتعابير الوجه الدقيقة، التي التُقطت بكاميرات محمولة على اليد، ومقاطع واسعة تُبرز مساحات العمل، والكشف عن الألغام، والانفجارات العرضية.
استخدم في الصورة مُرشّح اللون الزيتي، لإضفاء طابع خاص على المكان، تناسب البزة العسكرية للجنود، ومكبرات الصوت لتضخيم ردود فعل الجنود وحركاتهم، خلال التدريب والزحف والتفتيش البدائي عن الألغام الأرضية، وكتم الأنفاس وتصاعدها، وفعل إزاحة الرمل باستخدام الأنامل. ووظف الضوء الطبيعي، شروق الشمس وغروبها، بطريقة جمالية بارعة، وفي ترسيخ وإنتاج وتدعيم فكرة الفيلم ورسالته الأساسية.
تلاشت أحداث الفيلم بهروب من تبقى من الأسرى الألمان عبر حدود بلدهم مع الدنمارك، بتواطؤ من الرقيب.
توضح رسالة الفيلم نفسها، أن لا مستقبل قادم ومشرق وجميل سوى بمعالجة الذاكرة، والاشتراك في نزع أشواك الماضي، وإعادة الاعتبار لقيم الإنسان وجوهره الأسمى، وإلا ستستمر الملاحة في دوائر مفرغة، بلا اتجاه، نحو الفناء والتلاشي.