شُرْفة

أبعد من الحاجة إلى الاكتمال

كتب/ ضياف البرَّاق

على الأصحّ في لقائنا الأخير، دخلنا الحديقة لساعتين فقط، ثم غادرناها.. وكان قلبي طافحًا بالحب والصفاء والنور والاشتياق إلى لقاء جديد وأطول.. عدتُ وحيدًا كالعادة إلى مسكني وقد امتلأتْ أعماقي بالكثير من اللحظات السعيدة التي ستُحال إلى دفتر الذكريات الذهبية، مع أنني من أولئك العشّاق القليلين المتمرِّدين على الحنين إلى الذكريات، ولو كانت جميلة أو تستحق الزيارة.. لقد علّمني الحبُّ أنّ التعاسة هي استعادة الماضي والانحباس فيه أو اجتراره وتكراره كما هو.. علّمني أن أسيرَ قُدُمًا فحسب، أن أعيشَ دومًا مُندفِعًا نحو الأمام، كما تتدفق الأنهار.. أن أسبقَ زماني.. علّمني أن أعيش مُهاجِمًا لا مُدافِعًا، مُبدِعًا لا مُقلِّدًا، مُغامِرًا لا خائفًا مُتجمِّدًا ولا منطويًا على ذاتي.

لم تقل “وداعًا”، فتلك كلمة سامّة لا تصلح في حُبنا، ذهبتْ وهي تقول بأن لقاءنا القادم سيكون بأجملَ وأوسعَ من هذا الذي انتهى للتو. ذهبتْ كي تعود، كي نتجدّدَ ولا نفترِقَ، وكي أكتبها باستمرار ضد الحرب، وضد الكراهية والزّيف، والإنسان إذا امتلأ قلبه بالكراهية ورأسه بالزّيف، عندها لا يعود إنسانًا.

إنه جنوننا العبقري الذي لن ينتهي.. حريقنا الذي لا يسمح للموت بالتسلُّل إلى كياننا المشترَك.. لا أثِقُ إلّا بعبقرية الحب.. إنها العبقرية الوحيدة التي من خلالها نستطيع الوصول إلى أبعد نقطة وأبعد سماء وأبعد سَكْرة. طموحنا البسيط، أنا ورفيقة جنوني، أن نزرعَ الوردةَ في أحشاء كل لُغم، والليونةَ في صميم كل صخرة، والبسمةَ على وجه كل دمعة، وننقلَ أشعة الشمس إلى كل زنزانة تحت الأرض، ونمزِّقَ تلك الأقنعة الكاذبة والستائر السوداء، وننشرَ الموسيقى في كل الساحات والقبور والطرقات، ونهدمَ الأمل الرديء، ونبنيَ الأملَ الجيّد، ونحرسَ براءة الأشجار من إرهاب الحطّابين، ونضُخَّ الماء في عروق كل رَمْلة، حتى لا تعودَ أمامنا هذه الصحراء الجاهلية المسعورة التي تبتلع أرواحنا على الدوام.. كل ثقافة خالية من هذا الحب العظيم هي ثقافة عاقِر، وكل ثقافة عاقر ستقمع الحبَّ، وتُضَيِّق على العشّاق، ولكنَّ الحبَّ لا يتحطم على ظهر هذه الصخرة الواهنة. إنه الحب ذو النفَس الطويل، له شجاعةُ سقراطَ، وصَبْرُ سيزيفَ، وصِدْقُ المجنونِ الذي اكتملَ جنونه، وأملُ الفلّاحِ القرويِّ المُتكِل على الله في كل الأمور، فهذا الحب الصادق هو طائر الفينيق الحقيقي.

ليس حبنا مجرد انجذاب رومانسي بين عواطف غير واعية، ولا عبارة عن لعبة هذيانية مُسليّة اختلقناها من الأوهام والوساوِس والرغبات الشهويّة، ولا هو مجرد هروب كبير من وحدتنا وعذاباتنا النفسية الداخلية، ولكنه أبعد من ذلك بكثير، وأعمق من كونه حالةً حميميّةً فريدةً، بعيدة المدى، قامت من أساسها على التفاهُم والتناغُم الصادِقَين، روحيًّا وفكريًّا.. إنه فلسفة ارتقائية، صيرورة استثنائية، ثورة جمالية على كل أشكال القُبح التي تغرق فيها هذه الحياة، وانتماء صميميّ إلى أنفاس الوجود العميقة، إنه الحب المستنير، الواسع، الضارِب في أعماق كل شيء، من دون كَذِبٍ ولا خوفٍ ولا تكبُّر.
حبنا هو الدهشة من نخاعها إلى نخاعها، الدهشة التي تتخلّق من عناقاتنا المترامية إلى ما وراء الآفاق.. هو الضوء مُشرِقًا من أفكارنا المُختلِطة بدَمِنا.. هو الاندهاش والإدهاش في آنٍ معًا، ثم الكشف والاستكشاف، الاتصال والتواصل، الانفعال والتفاعُل.. إنه تفتُّحٌ متعدِّدُ الأبعاد، سَفَرٌ دائم إلى مختلف الثقافات والغيوم والألوان، والتغلغُل فيها، والتمازُج معها.. إنه التحرُّر.. التقدُّم.. التسامي والخلود.

ليس الحب سوى مقاوَمة مُكثَّفَة لكميّة الرعب الهائلة المبثوثة في جميع ذرّات الكون.. إنه استفاقة عنيدة تتوهَّج بين سَكَرَات الموت الخَطِرة.. واستعادة مجنونة لأحلامٍ جميلة فقدناها لمجرد أننا كدنا نلمسها بأصابعنا أيامَ طفولتنا الضائعة. والحب لحظةٌ قصيرة جدًّا، لحظةٌ تصعد إلى قِمّة الأبديّة، وتختزِلها، لحظةٌ أطولُ من تاريخ الوردة وأعمقُ من جنونِ هذا القلب الكبير. إنه الحب الثائر على الأنياب والمخالب والسكاكين والرصاص.. الحب الذي يزرع الأرواحَ في الجُثث ولا يركع أمام عُنْف الدولة.. الحب الذي يُشعِل الحرائقَ في رؤوس الأفاعي الحاقِدة التي تبثُّ سمومها من حولنا كي نبقى في هذا الظلام مُعَاقِين مدى الحياة.

أحبكِ إذَنْ..

أُعطيكِ كلمتي بحذافيرها، وأصلّي لكِ في مداخلها ومخارجها، في معانيها وأصواتها.. فخذيني دائمًا مغسولًا بمطر العشق والتأمُّل، مدفوعًا بشهوة المعرفة والتمرُّد، مُصابًا بجنون الضوء الخرافي، مُمتلِئًا بدهشةِ وعذوبةِ ذلك الطفلِ الذي فتح عينيه على البحر ونظر إلى السماء لأول مرة، وفي هذه اللحظة تحديدًا.

نسْكَر من الحب حتى انقشاع الموت عن سمائنا، ونتعرّى بالكامل أمام الأشياء، ونُعرِّيها كاملةً، فتُصبِحُ عندئذٍ حياتُنا حقيقيةً جدًّا، ويغمرُنا طوفانُ السلامِ والسعادةِ.. نَعم، الحب هو أن نتعرّى تمامًا من كل هذا الزّيفِ الذي يحجبنا عن حقيقتنا الأصلية، ويأخُذنا بعيدًا عن معنى الحياة.
أنا العاري الآن أمامكم.. والعاري كاملًا وإلى الأبد أمام حبيبتي، وأعطيها المسافةَ من الباب إلى النافذة، والرشفة الأولى من الكأس إلى الرشفة الأخيرة من العمر، والقصيدةَ مُحرَّرةً من كل الأكاذيب والزخارِف الواهية، والكتابةَ من الصحراء إلى البحر، والينابيع الممتدَّة فوق كل الجهات. بالحبِّ سنُروحِنُ الجماداتِ، ونخلق المعانيَ بلا نقصان، ونرقُص فوق النجوم.. وفي الحب، وحدَهُ، نستطيع أن نرى ما لا يُرى، ونعرِف مَن نحن، وكيف ينبغي أن نكون، وماذا علينا أن نَصنَع، وأين نقِفُ على التحديد.

 

بعدما يئستُ من تقليب صفحات الكتُب، ومن العلاقة بين السياسة والدين، أحببتكِ، وأحببتُكِ أكثر لأنني أُريدُ أنْ أُعانِقَ اللهَ بهذه الطريقة الطاهرة، وسأُحبُّكِ فوق ذلك بكثير لأنّكِ المُتسَع الوحيد لوجودي في هذا العالم المخنوق بالفارغين من الحب، وأولئك هم الأشباح. بحبنا سنصل إلى أعلى مراحل الوعي والحرية، تقول حبيبتي.. ونكسِر العُزْلةَ والتشاؤميةَ والقيودَ البغيضة، أقول أنا.. وتعانِقُون ملكوتي، يقول الحبيبُ الأعلى.

غدًا سأذهب وحدي إلى ذلك المقهى الذي لا تعرفينه، سأجلس شَطْرَ قلبك عاريًا إلّا من الشوق الساحق، سيأتي النادل ولن أطلبَ منه أي شيء، ويأتي اليأس ولن أكترِثَ به، ويأتي النسيان ولن أنساكِ أبدًا. هناك، بين لهفتي الطويلة وغيابكِ القصير، سيكون ذلك الكرسي الذي منعني من الجلوس وحيدًا، الكرسي الذي ينتظِر منكِ علاجًا سريعًا ضد الشعور بالشوق والقلَق.. الكرسي الذي ينتظركِ من جهتي وباسمي ولأجلي.. ويزحف نحوكِ كالعاصفة. أنا أيضًا أشعر الآن بالقلق وأذوب شوقًا وانتظارًا، وأركُض وراءكِ إلى يوم يغرَقُ العالَم كله بالقهوة والحب. لا أريد هذه القهوة الباردة.. سأرتشف اسمكِ ممزوجًا بصوتكِ الحنون وأرسم وجهكِ العبقري على جدران المقهى وأنا أبكي، وأنا أضحك فرَحًا، وأنا وجسدي وروحي نطوف عليكِ سُكارى بكِ حتى التّلَف.

كل جِراحاتي سَتسأل عنكِ وتبحث عن عطركِ فيَّ ومن حولي. أمّا أنا فلا شيء سينظر إلى وضعي الكسير، ولا أحد سيسألني مَن أنا، ولا ماذا أنتظر هنا.. إلا أنني مُسْتَغْنٍ بكِ عن كل شيء.

سأشعل كل سجائري مرة واحدة، وأعطيكِ حتى الحرفَ الضائعَ من اسمي، وأُسلِّطُ عليكِ هذه الغيمةَ التي يتدفق منها هذا المطرُ الغزير الذي لا يشعر به أحد من هؤلاء الناس الذين حوّلتهم بشاعاتُ الحربِ إلى صوَر مَنسيَّة وأمراض مُستعصية. إلّا أنه قد صار ضروريًّا الآنَ نقلهم جميعًا إلى المصحات النفسية والمقابر.

وعندما أعود من المقهى، ستكونين معي أكثرَ من وجودي وعدمي.. وسأعطيكِ كلَّ هذه الشوارع والحواس والخطوات والخواطِر والدموع، وكلَّ ما أحلم به، وكلَّ ما أفكر به؛ لأنّ حُبَّنا يستدعي ذلك، حبنا الأبعد من حاجتنا إلى الاكتمال.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى