رئيسيشُرْفة

حياة ناسفة

كتب/ عاصم الشميري – رئيس التحرير

 

في البلد الذي لم يعد يعرفنا ولا نعرفه، إلا من شعور حزننا، وأصبح الحزن معتادًا، وكل أوجهه تتشابه، ذات الوجه الباهت وذات الجمود..

حزننا الشعور الأصم الذي يتكون في أرواحنا كل يوم، كل حادثة، كل موت، وكل وجع!

أخبار الموت المتصدرة دائمًا، أصبحت “ترند” حياتنا اليومي منذ بداية الحرب، لا تجد صديقًا عزيزًا إلا ولقي حتفه، ولا قريبًا إلا وأخذ من هذا الحزن كومة من الأوجاع.

تكالبت علينا الأحزان والحوادث حتى بحّ الصوت في حلوقنا، وبهتت الكلمات في الذاكرة.

عن أيّ حزن نكتب الآن.. لا نستطيع ترتيب الأحزان؛ فهي عشوائية في النفس والشعور، تتدافع بسرعة، وكل وجع يوازي الآخر.

 

علينا الاعتراف.. الأحزان أصبحت معتادة، أصبحت جزءًا من مشاعرنا وشعورنا ناحية الأحداث، نشعر أننا نكذب عندما نكتب، وحين نحاول البكاء، لم يعد شعور الألم نفسه بتلك الصدمة والمفاجأة، وذات الغصة.. إنه شعور معتاد يجلس أمامنا كل يوم، حتى اعتدنا على شكله.

قُتلت رشا !..  وجنينها الذي كان يستعد للقدوم إلى الحياة تطاير مع أوصالها، وزوجها الذي كان أجمل اختياراتها، كما قالت، أصيب إصابات بالغة إثر العبوة الناسفة، والأكثر وجعًا في روحه أنه فقد حبيبته وخليلته التي احتفل معها قبل أشهر بعيد ميلاد ابنهما البكر الأول جواد!

لم يعد للغضب صوت، ولا لسخطنا معنى، كل المواجع تموت بداخلنا في زوايا لا نعرفها في الروح، في ثقب أسود غريب وعميق.

 

قُتلت رشا، وقُتل جنينها بداخلها، ولم يُتح له وطنٌ حتى ليفتح عينيه ويرى النور الإلهي والظلم البشري..! عذرًا يا صغيري؛ لم يُتَح لك القدوم.. ولكن لِمَ ستأتي؟!

لبلد تُقتل فيه الأمهات؟!

لبلد تموت فيه قبل المجيء؟

لبلد تُغتال فيه النساء؟

لهذا اليمن الذي يوزع الجرائم بالمجان، والأحزان على الأرصفة، برخص التراب؟!

 

كان أبوك في انتظارك، أما الآن فهو بانتظارك أنت وأمك..

في انتظار أن تعودا وتطرقا أبواب قلبه الموجوع.

أنا آسف؛ لكن القتل يؤلمني، حين ينشّن نحو أبرياء، شباب يحاولون العيش بكل الطرق الممكنة، يؤلمني كل هذا العبث وهذا الجرم، يؤلمني موت رشا وحزن محمود كأي واحد عرف القصة، ويحزنني هذا الوداع الطويل الذي لا يحمل لقاء آخر معه.

قلنا كل شيء عن القتل والإجرام، لم يتبقَّ لنا كلمات ملائمة ومناسبة لمثل هذه الحوادث، ألمٌ يضاف إلى جانب إخوته، وبكاء مؤجل سنبكيه يومًا ما!

في بلد لم يعتق أحدًا من الموت قُتلت رشا.. ورشا تعني الكثير لزوجها محمود وابنها جواد، ولصديقاتها وعائلتها..

وقتلها يعني الكثير من الحزن والألم لنا.

 

اغتيلت كما يُغتال رجال عسكريون، وقتلت كما يقتل رؤساء مافيا، وجنينها في الداخل يركل بطنها حين يشعر بالملل.

في بلد يضع بها المجرمون الجنين على الأرصفة محروق الجثة.. جثة جنين..!!

لا يولدون بعملية قيصرية، بل يولدون بعملية إرهابية.. ولا يولدون ولادة طبيعية في مستشفى، ويوضعون على السرير الخاص بهم، بل يولدون للموت، يولدون أشلاء!

في بلد تمنح لقب الشهيد لجنين لم يأتِ بعد إلى الحياة، ولم يشارك بها حتى.

سنبكي على كل الأحزان مرة واحدة، أو ربما سنموت كزملائنا، لم نعد نشعر بالأمان، الخوف يرافقنا في كل مكان، نرحل نغترب نهاجر ونعود للحزن والخوف..!

غاضبون يا رشا.. غاضبون يا محمود.. قلة حيلتنا تدفعنا للكتابة وترديد اللعنات على المجرمين.. لا نستطيع فعل شيء آخر!

أوهمنا أننا من اليمن السعيد، لكننا الآن نحزن، وتطرق أبواب أرواحنا المواجع بشكل دائم، إنها تعبر دون طرْق حتى.

أيّ بلد يفجر استقرار أسرة مكافحة، كانوا أقوياء أمام همومهم وظروف الحياة، يعملون بجد ليتمكنوا من العيش، كانوا يريدون العيش في بلد يحارب فكرة أن يعيش به إنسان.. يلفظ الأرواح إلى الخارج، وينتزع السعادة من وجوه الأطفال، وأرواح الأجنة وأمهاتهم مرة واحدة!

سيستيقظ محمود لأجل ابنه البكر جواد، وعندما يدرك كل هذا الفراغ سيعرف أنه من اليمن، وأن ما يحدث سيكون على الجميع، كل الجرائم التي نكتب عنها وننقلها سنمر بها.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى