رئيسيصـالون

الحياة شِعراً.. أو طه الجَنَد

كتب: عبدالرحمن الزراف

علينا أن نعيش الحياة لا أن ننشغل بها.

طه الجند.. “البيت الهادئ يدعو للقلق”

أريد أن أتحدث عن “طه الجَنَد”.. سمعت بهذا الاسم أول مرة_من صديقي طلال قاسم، بعد عودته من صنعاء التي ذهب إليها حين أصدر روايته “الواحد” قبل سنوات الحرب.
كم مرّت من سنوات؟!

كان طلال يحدثنا بشغف عن كاريكاتير الشاعر الذي لا يكتب الشعر فحسب، بل يعيشه بكلّ جوارحه، ويحياه صدقًا وصراحةً، موقفًا وصعلكة.

وقرأنا معًا بعض قصائده ذات الصوت المختلف، الصوت الذي لا يهادن، ويرفض الزيف ورطانة ربطات العنق وأسماءها.

وحكى لنا طلال شيئًا من مواقفه الحياتية التي كان فيها شاعرًا مثلما هو في القصيدة.

عرفته بعدها من خلال صفحته في فيسبوك، التي بدا منها قريبًا منّا، ويشبهنا، تتحدّث معه فتجد ذات الصورة التي تشكلت في ذهنك بقراءة قصائده وحديث الآخرين عنه.

مؤخرًا تابعتُ لقاءً تلفزيونيًّا ظهر فيه، وتحدّث عن طفولته وقريته وناسها، ومعهد الشوكاني للمعلمين الذي درس فيه، والحياة والشعر والذكريات، ومجموعته الشعرية الأخيرة “البيت الهادئ يدعو للقلق”.

 

في “البيت الهادئ”، آخر ما صدر له في العام 2018م، تظهر لك سيرة طه الجند جليةً من خلال الشعر الصافي، ولمعان الجُمَل المكثفة، التي تستوقفك وهي تبدو كحقيقة، أو خلاصةً لحياةٍ متأمّلة.

في إحدى قرى وصاب أتى شاعرنا إلى الحياة، ثم وجد نفسه يتيمًا، وهناك كانت بذور الشعر والثورة الأولى:

“أنا ولدٌ يتيم

أصرخ دائمًا لأحمي نفسي

لا أريد منكم شيئًا

ولا أفكّر بقتل أحد”

ثم يغادر قريته بعد الابتدائية، ليلتحق بمعهد الشوكاني للمعلمين في صنعاء:

“سأتكلم عن سنوات المعلمين

عن القادمين إلى صنعاء

برؤوسٍ منفوشة وملابس بالية

لا يحملون سوى الاستمارة الابتدائية

ودهشة الصور الأولى”

كانت تلك نظرةً عامة، تقترب الصورة أكثر لتفصح عن الشخصية والاهتمامات وبداية وتشكّلها:

“عن الطالب المثقف

في نظر مدرس اللغة العربية

والمرح الساخر

في نظر أصحابه الكثيرين

من صنفوه شيوعيًّا مغرورًا

بعد فوزه برئاسة اللجنة الثقافية

وإدارته للمكتبة والإذاعة

وإصدار الصحف الحائطية”

هذا الولع والنشاط الثقافي الذي أتى بالمعرفة، سيأتي بالقلق أيضًا كثمن للمعرفة أو ضريبة لها، كأنهما قرينان لا ينفكان، كما يخبرنا الشاعر في المجموعة:

“الإنسان ورث الطمع من أسلافه

وبجهده الخاص اكتسب المعرفة والقلق”

ذات القلق نجده عند المتنبي:

“على قلقٍ كأن الريح تحتي…”.

ونجد الاقتران نفسه عند البردّوني:

يا شِعر يا تاريخ يا فلسفة

من أين يأتي قلق المعرفة

القلق الذي سيرافقه في كل مراحل حياته اللاحقة، كما رافقه الشعر، وهو يفتش عن الهدوء في بلد لم يعرف سوى الحروب:

“أيام الجبهة كانت مؤلمة

التسعينات.. الوحدة ومخلفاتها

تأتي الألفية الثالثة ونحن منهكون

يا الله لم نحصل على وقت للهدوء

للتفكير في ما جرى”

جذوة القلق التي بين جنبيه هذه، ستجعله يبحث عن العدل، كهاجسٍ دائم، وملاذ حالم:

“كيف توغل في القفر

لا رفيق ولا درب

أنت وحدك في الأرض

تبحث عن عدل

اهدأ الآن

وتحسس كيف تعيش”

ويصطفّ أبدًا مع الفقراء أمثاله:

“من يذهب إلى جولة تعز

ويقف مع العمال المنتظرين

منذ ستينات القرن الماضي”

هذا الاصطفاف الذي سيغدو مبدأً وقاعدةً ينطلق منها وتشكّل مواقفه وقناعاته:

“أنا مع المهزومين

من يريد أن أصطف معه

عليه أن يُهزم أولاً”

وحتى وهو ينتمي ملتمسًا هذا العدل وباحثًا عنه، يحتفظ بشخصيته،  ويمشي مع الجموع وحده، بلا إطار يقيّد حركته ولا ندم:

“أغرتني نجمة العدل في اليسار

لكنني عشت في فسحة من أمري

ناضلت بطريقتي

وسجّلت مواقف على مسؤوليتي

لستُ تابعًا لأحد

ولا نادمًا على شيء”

وصفه زملاؤه في معهد الشوكاني بأنه شيوعي في صغره، وسيظلّ محتفظًا بالأمل والحلم كأنه آخر الشيوعيين:

“سقطت كل قلاع الشيوعية

وبقي هذا الشيوعي وحيدًا

ينتظر الثوار”

ويمضي الشاعر في حياته القلقة باحثًا عن الهدوء، ومحاولاً بلوغه:

“لا يريد أن يموت

أن تقولوا كان وكان

يريد أن يعيش بينكم

يهدأ قليلاً

يحتفي بالحياة، هذه الهبة”

الشعر والخيال والمشي كانت هي أسلحة حياته التي قاوم بها القلق وحاول الفرار منه، وتجاوزه:

“المشي يقاوم القلق

ويقلل مساحة الفراغ

وهو الشيء الوحيد المتاح للمجانين والعقلاء”

يغريه هدوء القمر وسكينته في الأعالي، فيحاول محاكاته:

“لقد رأيت القمر فوق جبل عيبان

وهو يتأمل بهدوء

ولا يبدو على ملامحه أي قلق

إذًا سأجلس إلى جواره

وأتأمل وأنظر من هناك”

لكن القلق الذي يسكنه، يبقى معه وهو يكتب الشعر  بإيجاز وعلى عجل، ويستغرب ممن يكتبون المطولات، ويصدرون الكثير من الكتب:

“ما زلت مؤجِّلاً فكرة الكتابة كمهنة

لا أدري ما الذي أنتظره”

كأنما هذا التأجيل نتيجة طبيعية للحظات القلق التي يعيشها:

“أجلت هذا الليل والمعنى

وأجلت الغرام”

لكنه لا يستدعي القصيدة، أو يتكلّف كتابتها قسرًا، بل يدعها تأتي على مهلها، وتتشكل بهدوء مثل لؤلؤةٍ في محارة القلب، وتصعد من أعماقه لتتنفس الحياة، بكل ما يمنحها الصدق من اكتمال:

“القصيدة:

كيف لي أن أحدد ملامحها

فهي تأخذ مسارًا غير مرئي

تتشكّل هناك بمهل

حين تدبّ فيها الحياة

تتعرّق وتنكمش

تصعد من الأعماق

لتتنفس كحوت

عندما تتعجل وتطلب العون

تأتي بلا أطراف

أو تعاني من قصر النظر

في حالات أخرى أهرب منها إلى الرياضة والمشي

هكذا أنجو بجلدي

وتمضي لحال سبيلها في الغيب”.

يمضي هذا العمر القلِق على عجل، وتمرّ سنواته كشريط سينمائي دون فرصة لالتقاط الأنفاس:

“تعبنا من التلفّت

يا الله.. في أي مكانٍ نحن الآن؟!”

هذا الإيقاع اللاهث، الذي يصبح تعريفًا في لغة الشاعر:

“العمر شعور بالإيقاع

إحساسٌ بمرور السنوات”

ثم تأتي الحرب مجددًا، الحرب التي ما تلبث أن تعود:

“أنا والجيران

في الظلمة نحصي الغارات”

فأين سيكون الشاعر، ومع من سيصطف وهو يرى الفقراء الذين لطالما انتمى إليهم، يتمترسون في الجانبين، ويموتون بالمجان:

“لماذا لا تذهب إلى الحرب؟

أنا في الجبهة من سنوات

لم أرَ أحدًا لأطلق عليه النار

لم أجد في المتاريس سوى الفقراء”.

في رحلة الشاعر أو حياته القلِقة كان البيت ملاذًا آمنًا، وحصنًا هادئًا من ضجيج الخارج ومخاوفه، قد يغادره قليلاً:

“ما الذي أخرجني من البيت سوى التوقعات!”

لكن ليعود إليه، وتصبح هذه العودة هي فكرة البيت وتعريفه:

“البيت يعني أن تعود

البيت يغري كي نشيخ

نكون أطفالاً متى شئنا

نناور أو نتيه

البيت امرأة

إذا ضاقت يضيق”.

العودة هي البيت، والبيت ليس سوى المرأة، التي تشكّله بمزاجها، فتجعله “سكنًا” فسيحًا، أو جدرانًا ضيقة.

الطفل الذي غادر قريته في وصاب صغيرًا، سيظلّ مسكونًا بها، وبالعودة إليها:

“أريد العودة للقرية

القرية التي لم تغادرها روحي

روحي الهائمة”

هذه الروح الهائمة، المتعلقة بمسقط الرأس، أحبت البلاد كلها:

“هذي البلاد أحبّها وحدي

فأصحابي تلاشوا في الطريق”

لكنه لا يرى أن لصنعاء فضلاً على أحد، وعرف عدن من الأغاني والأحلام قبل أن يلتقيها، وظلّت تعز مضيئة في ذاكرته، فقد كانت أول مدينة يراها صغيرًا، واقترنت عنده بمعنى “المدينة”.. بائعة المشاقر والقات التي رآها في ذلك الزمن، اختزلت المدينة في ذاكرته، وأصبحت صورةً بديعة شبّهها بها:

“قلبي مع تعز

التي ما زالت مضيئة في ذاكرتي من أيام الطفولة

كونها أول مدينة يشاهدها ذلك الولد

القادم من جبال وصاب البعيدة

المدينة التي بقيت فاتنة وغامضة

مثل بائعة المشاقر والقات

كل من يحلّقون حولها؛ يتوهمون أنها قريبة

لكنها قبل الغروب تصعد الجبل

وفي الصباح تنزل المدينة”

هكذا مضى الفتى الوصابي اليتيم، والطالب المثقف في معهد الشوكاني، والشيوعي الذي يمشي وحده، والشاعر الذي يقاوم القلق بالخيال والأوهام التي يراها ضرورية:

“يحتاج إلى أوهام كثيرة تمكنه من التماسك”.

ناضل بطريقته، وفتش عن الهدوء، وكتب شعرًا صافيًا أخّاذًا، ولم يفقد إيمانه بالبلاد التي أحبها، وما تمنى لها من أحلام:

“اليمن بلد عالٍ وجميل

سينتصر الإنسان فيه

ولو بعد حين

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى