شُرْفة

مشاهد اعتيادية

أنت الآن شارد البال، لو انتبهت لحظةً لهذا الطفل لرأيته يبكي. انظر للمعان الدموع في عينيه تحت الشمس، شاهده وهو يقتعد أمام كرتونه يبيع “الكُدَم”، تأمل نظراته المنكسرة.
‏الساعة الحادية عشرة ظهرًا، هل يدرس هذا الطفل؟
أين يسكن؟ ‏ما حال عائلته؟
أعلم أنه مشهد روتيني في الشارع الذي تمر منه كل يوم، لكن هنا العديد من المشاهد التي تستحق التأمل قليلاً فلا تتجاهله، شاركه بعض معاناته.. شاهد نظراته التي يوزعها هنا وهناك، والتي توحي بحلم واحد وهو أن تباع كُدمُه.

مرّت ربع ساعة لا أحد اشترى منه، وهكذا انقدت وراء ما يجول في رأسي وجلست من بعيد أراقبه.
وقفت مقابله، أشاهد شعره السلس الذي صار بلون الغبار، وعينيه التي يفركها من الأتربة والرياح التي تثيرها الباصات المسرعة من أمامه. بنطاله متسخ وحزين.. ينظر في كرتونه، يحصي بعض الكدم بيديه ثم يعيدها فاقد الأمل.
تابعت الحديث لنفسي قائلاً: ما رأيك أن تذهب وتسأله، فذهبتُ..
– أهلين كيف الحال؟
– ‏الحمد لله.. كم تشتي كُدم يا عم؟
قلت له بمئتين، كنت قد أكلتُ، لكن لا أستطيع أترك ذلك التمني والاحتياج لبيع شيء ما أن يخيب.. شعرت بالحزن أكثر حين بدت ملامحه القاسية واضحة أمامي، طفل ربما في عمر الثامنة يكابد الحياة وحيدًا، مقطوعًا من شجرة.. مقطوعًا من وطن.
بعد أن سألته عن اسمه، سألته أيضًا:
– تدرس يا عُمر؟
– ‏لا.. إلى صف ثاني وبعدين خرجت؟
– ‏ليش خرجت؟
-‏ خرجت أشتغل؟
– ‏ليش؟
– ‏أبي مسجون وأمي تشتغل خياطة بس ما يكفيناش مصاريف.
أخبرته ماذا لو تشتغل عصرًا وتدرس في الظهر، وقلت له: لا تضيِّع دراستك.. أعرف أن مستقبل الدراسة ليس مبشرًا في البلاد، ولكن شعرت بأنه لا يجب علينا أن نفقد الأمل، الأمل مجاني ويصيب أحيانًا.. لم يستطع إجابتي، أو ربما فهم ما قلته عن الدراسة، فصمت وودعته.
لم يسقط هذا الطفل من السماء، كل يوم ربما أراه دون أن أشعر به، بل أرى الكثير من أشباهه يقاسمونه نفس حالته: بائعي السواك، أصحاب موازين لتوزين المارة، بائعي المناديل، هل هذه مشاهد طبيعية؟ هل يجب أن أتعود عليها؟
هؤلاء أطفال، يعملون في أوقات دراستهم ويكدحون، وربما يقضون حياتهم دون أن يكتسبوا أي معرفة أو شيء يساعدهم في حياتهم، لذا صدقًا أتحاشى أحيانًا التأمل في الشارع، وأحيانًا لا أخرج.
من الطبيعي جدًّا أن يحزنني مشاهدة هؤلاء الأطفال نحيلي العظم وهم يتعذبون.
تركت الطفل بنظراته الظاهرة عليها صنوف شتَّى من المعاناة خائبًا على الطريق كأنني أترك أخي الأصغر وقلبي يحترق من العجز وقلّة الحيلة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى