كتب/ عبده تاج
الخَدشُ الأول
حينما خفّ صدى الدويِّ الصاخب في المكان، سارع الناس بحذر، كي ينقذوا من تلك الأكوام البشرية الأجسادَ التي ما تزال تتحرّك.
أجسادٌ محترقة ومبعثرة الأعضاء، أعضاء ما تزال تهوي من السماء حيث لا يمكن التخمين كم العلو الذي ارتفعت به إثر التفجير، دماء سوداء نشف كلّ احمرار فيها، صرخات ما زالت تخيّم في الأرجاء، يبدو أنها من ماضٍ بعيد حدث للتوّ، أنينٌ متجلّط في الهواء.. قلّبوا كلّ الجثث بسرعة.. وتيقنوا أنْ لا شيء يمكن أن يُنقذ، كل شيء بات ميتًا، أو ميتًا بشدّة.
في الطرفِ الآخر البعيد أحدهم أبلغ بابتهاج بأنّ المهمة نجحت تمامًا.. أشجارٌ مرتعبة، وهياكل كلاب متفحِّمة.
مَن باتوا قتلى الآن، كانوا بالأمس يخطِّطون لحياة حلوة، في رأس أحدهم وردة نسي أن يهديها لحبيبته، في يد الآخر اعتذار للجار الذي تخاصم معه، في القَدَم خطوات متردّدة لطرق باب الأحلام، الأحلام التي توقف نبضها الآن وخارت قواها.. الشيء المشترك بينهم كلهم، ليس كلهم، لا يمكنك أن تقول ذلك وقد صاروا قِطَعًا متشابهة ذائبة بلا تمييز، كانوا جميعًا حزانى وهم موتى، ربما حزن التلويحة الأخيرة التي لم يرتّبوا لها، يمكنك أن تدرك أنهم حزينون وأنت ترى قلوبهم، قلوبًا كانت تحلمُ بموت هادئ بسيط وممكن، قلوبًا خضراء، يمكنك أن تراها بوضوح من بين كل أكداسهم المحترقة.. يمكنك أن تراها.. قلوبًا برغم كل القنابل التي رُميت عليها لم تحترق ذرَّة منها.
الخَدشُ الثاني
عدنا ثلاثتنا إلى البيت بعد أن استطعنا تجاوز ثلاث جبهات مشتعلة، لا أدري كيف فعلناها.. كنا في البدء كثيرين، نمسك ببعضنا، أصدقاء حميمين، وغرباء صاروا بلحظة واحدة أصدقاء.
في الحرب بلحظةٍ يمكنك أن تصادق أحدهم، وبإمكانك بها أن تفقده.. لقد كان يسقط الواحد تلو الآخر، ونحن نواصل الهرَب فزعين كما لو أننا محاصرون ببراكين هائلة.. كنا نزحف على أعيننا، شهقات الفجيعة والدمع الأسود كان هو ما يشعرنا بأننا أحياء، لا تتحسس في الحرب صدرك، إنْ ما زلت تحسُّ بوخز الدمع فأنت لم تمت بعد، الموتى لا يبكون، ربما لا يبكون دموعًا على الأقل.
وصلنا بأقدام متشظية وبدماء مُرّة ترامت في أفواهنا المتشرّخة، وصلنا وقد نحتت طريق النجاة هذه سراديب مُظلمة في دواخلنا، طافحين بغصص خانقة، وكأنّ كل الجثث المرمية التي كنا ندوس عليها قد ابتلعناها دُفعة واحدة.. حينما فتحنا باب البيت، لا ندري أيَّ بيت، دخلنا مُسمّرين في دوائر دائخة، جلسنا على أريكة أمامها تلفاز يبث فيلمًا هادئًا، ومروحة في السقف، أرخينا أجسادنا وكأنّ الجاذبية كلها قد شدّتنا بقوة إلى الأسفل، صرنا ذائبين على الأريكة.. ومدركين جيدًا أننا مُتنا في الحرب التي نجونا منها للتو.
الخَدشُ الثالث
أطفالٌ في البيت ينتظرون أباهم، لقد نسيَ معطفه الذي لا بُدّ سيعود له، يقول طفل آخر إنّه لن يعود لأجل معطفه، هذا لم يعد طفلاً، فهو يدرك بأنَّ ما سيعود له هي البوسة التي نسي أن يطبعها على خد أبيه، لقد نسي أن يبوس الطفل ونسي معطفه.. ونسي ماذا أيضًا يا أمي؟ الجميع يسألون الأم، أمّ نحيلة شُكّلت من حزن كثيف تقبع في الزاوية المرتعشة لم تجب على أسئلة الأطفال التي تبدو بلا أجوبة ممكنة لها بعد وصول أنباء قد تكون مؤكدة بأنَّ الأب قد قُتل، قتلته الحرب، هكذا صارت الحرب غريم كلّ من يُقتل في الآونة الأخيرة.
ظلّت أسئلة الأطفال تتزايد في كل ساعة بطيئة تمرّ، وما زالت الأخبار تتوارد من مصادر متفرِّقة لكنها غير مؤكدة ونهائية.. إلى أن أكّدت الأخبار مقتله، كانت الأم تجلس في زاويتها محنيّة على فجيعتها الثقيلة.. اقترب الطفل وسأل بكلّ أمل في الإجابة:
متى سيعود أبي؟ وكانت الأم مُحقَّة جدًّا حين أجابته:
سيعود حينما تنتهي الحرب..
الحرب نفسها التي لم تنتهِ أبدًا.