بروازرئيسي

طبشور ثروة ..ينير قرية في شرعب

شباب هاوس.. سكينة محمد


فتحت منزل أهلها في منطقة ريفية نائية، ووضعت طلاء أسود على أحد الجدران وراحت تخلق بطبشورها حياة تعليمية يتجمع حولها الأطفال والكبار، على حدّ سواء.
(ثروة) شابة تخرجت في جامعة تعز، قسم لغة إنجليزية، وككل الخريجين، أصبحت في خانات العاطلين رغم كفاءتهم.
تخرجت من الثانوية بمعدل عالٍ، فانتقلت إلى مدينة تعز لإكمال دراستها الجامعية.. كان ذلك قبل الحرب، وكان يوم توديعها في القرية مشهدًا سرياليًّا، فالجميع يحبها.


ولأنها يتيمة الأب، لم تستطع التسجيل في كلية تحتاج لتكاليف باهظة؛ فاختارت اللغة الإنجليزية، على أن اختيارها للإنجليزية لم يكن اضطرارًا، فقد كان شغفها وحبها لتلك اللغة مصاحبًا لها منذ أيام المدرسة.
تخرجت في الجامعة بتقدير عالٍ أيضًا، وعادت ليستقبلها محيط تتزوج فيه الفتيات في سن مُبكرة، وقلّما تُنهي إحداهن دراستها الجامعية، وإنْ فعلت فسيتبخر كل ذلك في غضون سنوات، دون أن تستفيد من تعليمها شيئًا.
كانت فكرة أن كلّ سِنيّ الدراسة والسهر والاختبارات قد تذهب سدى، تؤرق ثروة، وتجعلها في حالة تفكير دائم كيف تستفيد من تعليمها.

أخذ أطفال القرية يترددون عليها من حين لآخر، لتعليمهم حروف وكلمات اللغة المستعجمة بالنسبة لهم، كما هو حال كل القرى اليمنية، فالمتعلم بينهم يصبح نبراسًا.
أحست أنها تستطيع إيصال دروسها بسهولة لأولئك الأطفال، وأن لديها الكثير مما تعطيه لهم بكل شغف وحب؛ فدفعها ذلك لتوسيع الدائرة، وبدأت الدروس تتسع لتشمل أعمارًا مختلفة، حتى توافد الطلاب إليها من أنحاء مديرية شرعب السلام، شمال تعز.
وباعتبار أن المنزل ليس كافيًا ليكون هو المدرسة، استعانت ثروة بمدرسة قريتها لأولئك الوافدين، فيما احتفظت بسبورة منزلها للأطفال الصغار عند الصباح، ولغيرهم من الطلاب بعد ساعات الظهيرة.
فتحت قلبها أيضًا، وببساطة المرأة اليمنية، تلف طرف حجابها بطريقة عادية على أسفل وجهها، وتقف الساعات تلو الساعات أمام السبورة تُعطي حصصًا مُجدْوَلة بحسب مستوى الطلاب الذين أمامها، ومَن تراه منهم دون المستوى تفرد له وقتًا إضافيًّا.

ثروة قريتها
لثروة من اسمها نصيب.. تنهض باكرًا، قبل طلوع الشمس والشعاع، جالبة الماء من بئر القرية، ومسرعة في تجهيز الفطور لأمها، حتى يكون موعد توافد الطلاب قد بدأ.. تكون الحصة الأولى مخصصة للأطفال الصغار الذين يتوافدون إلى المنزل.. تستقبلهم بكل فرح وتذهب لتعلمهم على السبورة/ الجدار ما يقارب الساعة والنصف.. بعدها تتجهز، حاملة طبشورها وكتاب اللغة الإنجليزية، مسابقة الزمن، فيومها مليء بالمشاغل وتعليم الجميع.
لقد تطوعت في المدرسة التي أتمت فيها تعليمها الثانوي، وبلا ملل أو كلل أو تضجر تعطي دروسها حتى الظهيرة، ومن ثَمّ تعود سريعًا.
باب منزلها الصغير مشرعًا على الدوام، وإن مررت من هناك حتمًا ستجد طالبًا أو طالبة، صغيرًا أو كبيرًا، ذاهبًا أو آتيًا، وكتابه بين يديه.
خريجو الثانوية لهم مكان هناك هم أيضًا، يلجأون إليها فتؤهلهم لاجتياز اختبارات القبول في الكليات.. وتحقق بالفعل أن الكثير ممن علمتهم تم قبولهم في تخصُّصات الطب والهندسة وغيرها من الكليات.

حبًّا في العطاء
تستهل ثروة حديثها لـ”شباب هاوس” بالقول: “ما أعمله لا أنتظر عليه جزاءً أو شكورًا من أحد”.
وباعتزاز وفخر مَن يعرف أن قيمة البذل والعطاء في ذاتهما، تُواصل ثروة: “بعد تخرجي، ومع نشوب الحرب، كنت كغيري من الشباب يائسة من حال البلد.. تندمت لأيام، وربما لأشهر على الأيام التي قضيتها أدرس وأجتهد وكل حلمي التخرج، ولكني كنت أدرك أنني سأستطيع يومًا ما عمل شيء”.
وتضيف: “بطبيعة الحال لم أستطع التدريس بأيّ مدرسة أهلية، كون تلك المدارس تتمركز داخل مدينة تعز، وأنا مضطرة للبقاء مع أمي في القرية.
إضافة إلى أن أجور المدارس الأهلية في تعز متدنية للغاية، ولن أستطيع توفير مصاريف السكن والمأكل، كما أنني لن أستطيع ادخار بعض المال لأمي، عندها قلتُ سأبدأ بالتعليم في منزلي، ومن أراد سيأتي”.
ويبدو أن قرار ثروة كان صائبًا؛ إذ سرعان ما ذاع صِيتها، وبدأ الطلاب يتكاثرون، مما اضطرها لتقسيم وقتها وحصصها بحسب مستويات الطلاب، كلّ على حِدة.

التدريس يمنحني الشعور بالحياة

تواصل ثروة حديثها لـ”شباب هاوس” بالقول: “وأنا أُعلّم، أحس أني أحيا، وتغمرني السعادة.. لديّ القليل من العلم، ولكن الأفكار السليمة لا تموت، فأنا أزرع في طلابي بذرة حب التعليم، وأحبّب وأُبسّط لهم اللغة الإنجليزية”.
وتضيف: “نحن في منطقة ريفية، والكثير من الشباب هنا يتجهون إما للاغتراب أو لجبهات القتال، فأفرح أنا، ولو قليلاً، بأني استطعت إنقاذ العديد منهم وإقناعهم بأن العلم يُجمّل الذات، ويجعلنا أناسًا صالحين”.
ولا تنسى ثروة أن تشير إلى مبدأ جوهري في الحياة، مفاده: “ليس مهمًّا جني المال أو الجاه أو السلطة، المهم أن تنوّر محيطك؛ ولذا أنا أزرع في طلابي بذرة نقية”.
وتقول: “كنت في المدرسة طالبة مميزة، ليس فقط في اللغة الإنجليزية، بل وأيضًا في المواد العلمية.. درست ذات المنهج الذي يدرسونه الآن، فحاولت التعلم من مقاطع يوتيوب لتنشيط معلوماتي.
وفي العطلة الأسبوعية (الخميس والجمعة) أعطي دروس تقوية لطلاب مميزين في مواد مثل الرياضيات والفيزياء، وأكتشفت أن الطلاب يفهمون سريعًا، وأن أسلوبي مبسّط وسهل كما يقولون”.
وهنا كان لـ أمل محمد، إحدى الطالبات اللواتي يحضرن دروس ثروة، أن تؤكد لـ”شباب هاوس”، بالقول: “فعلاً، أستاذتي لديها طريقة وأسلوب رائع للشرح، بالإضافة إلى إحساسنا دومًا بأننا ضيوفها؛ فهي تتعامل معنا ببساطة وقرب، وتعيد لنا ما شئنا”.. مضيفة: “لا نعرف كيف نكافئها”.
في نهاية حديثها لـ”شباب هاوس”، تقول ثروة: “عُرض عليّ تحويل بيتي إلى معهد، والتعليم إلى أكاديمي وشهادات معتمدة، ورفع الرسوم ليدفع الطلاب مبالغ باهظة؛ لكني فضلت عدم استغلالهم”، مؤكدة: “سأعلم هكذا حبًّا في العطاء، وما عند الله لا يضيع”.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى