رئيسيشُرْفة

لماذا الفن؟

كتب /ضياف البَرَّاق

الفن ليس هروبًا من الواقع، لأن الحقيقة هي أن الفن بشتى أنواعه، يولد من قلب الواقع البشع، نور الفن ينفجر من صميم الظلام القاسي، ولأنه ينبع من أعماق الظروف السيّئة، أو بسببها، تكون له رسالة ثوريّة أيضًا، إنه يسعى إلى مكافحة التفاهة والتعاسة، ناشرًا الجمال والمحبة بين البشر، إنه يسعى إلى غرس القيم النبيلة والجماليّة في نفوس الناس، وأذهانهم، وأنا أتصوَّر مهمة الفن بأنها إرجاع الحياة إلى صوابها، وتجديد الشغف الإنساني بهذه الحياة، ثم إن كل هذه الأعمال الفنية هي بمثابة تأكيد حقيقي على أن الإنسان يهزم الموت، ولا يهزمه الموت، صحيح يُغيِّبه الموتُ جسديًّا، لكن تظل بصمات يده، أو نبرات صوته، وأفكاره، ودقات قلبه.. نعم كل هذه تظل حاضرةً، وحيّةً، ومنقوشة على جدران الحياة، وفي شوارع وصفحات هذا العالَم.. الفن يُخلِّد حيواتنا، وأسماءنا، ويطيل أعمارنا، ويصوغُ بيننا حالةَ التناغم والانسجام، ويُضفي على علاقاتنا ألوانَ التعايش، وألحانَ الأمل، ولذلك كانت الفنون تحظى بشعبية كبيرة منذُ فجْرِ الحضارة، ربما، وفي أيامنا صار الفنانون أكثرَ حضورًا من غيرهم، على مسرح الحياة، وأشدَّ تأثيرًا على الجماهير.

 

أول إنسان عاش على هذه الأرض، عندما وجدَ نفسه عالقًا في طريقٍ مسدود، ابتكر الفن.
هكذا، كما أتخيّل، كانت البداية، ثم راح هذا الإنسان يفكر بالفن، الفن فقط، وتطويره، وينشغل به رويدًا، رويدًا، مُستمتِعًا بهذا العمل.. ثم بقي يعيش على هذه الحالة، يعيش بفن، حتى وجد نفسه حُرًّا طليقًا في طريق آخر.. لقد كان تعيسًا، وأصبح الآن يعرف كيف يتخلص من تعاسته في بعض الأوقات، بممارسة الفن فحسب.
هذا ما يفعله الفن في نفس أي إنسان يعرف الفن، ويُقدِّر قيمته، بحيث لا يعود هذا الإنسان قادرًا على الاستمتاع بالحياة إذا لم يمارس الفن أو لم يستنشق هواءه النقي جدًّا.. الفن طريقة ما لتهدئة الحياة عندما تشتعل، أو تضطرب أكثر.. أجل، الفن هو تلك الطريقة الساحرة، الفذة والعميقة، التي نحتاجها لكي ننجوَ من شيءٍ ما، أو للخروج من قبضة شعور كئيب، والفن هو قدرة الجسد والروح، معًا، على خلق الدهشة، والشعور بها، إنه أسلوب خاص، نستطيع به الخروج من المُستنقَع الخانِق، بسلام، أو بأقل جهد أو خسارة، والفن، بتعبير بسيط جدًّا، شهقة ساخنة تنطلق من داخل الروح، يُطلقها أيٌّ مِنّا؛ لكي يعيشَ بحرية وجمال، وبتناغم مع الوجود.

 

أمشي عدة خطوات، ثم أتوقف قليلًا، وأنحني، باحترام، على حذائي العزيز، وأنفض عنه الغبار، بيدي اليمنى، ثم أتابع المشي إلى عنواني، هكذا أتمسّك بخيط حياتي، وأحاول أن أصنع سعادتي من أتعس المواقف، أو من أصعب الأوقات، وهكذا أعيش مُتصالِحًا مع ذاتي، باستمتاع وصدق وقناعة ناضجة. فمعنى الحياة هو أن تنفض الغبار عن حذائك، بعناية تليق به، وبشغف دائم.. هذا هو الفن، باختصار، وهذه أبسط فكرة عنه، ومن لديه الرغبة في أن يصبح فنّانًا في حياته، فيجب عليه أولًّا أو قبل كل شيء، أن يهتمَّ بمظهر حذائه دائمًا، وأن يشعر بالسعادة وهو يفعل ذلك.. أناقة الحذاء، ونظافته، جُزءٌ من فلسفة الفن. هذه ليست مزحة أو كذبة كما قد يظنّها الجاهلون. فرُبّما أنّ الذي صنع الحذاء، أول حذاء، قد كان فنّانًا، أو أظنّه، على الأقل، كان يميل إلى الفن، ويحبه بشكل أو بآخر.. والفن أيضًا هو أن تخفي أحزانك، أو أي شيء يدل على أنك إنسان تعيس، أن تخفيه في حذائك، لتعيشَ الحياة بمرح، ورضا، وبحكمة سَلِسة.. حافِظْ على خيوط الحذاء الذي تلبسه، فإذا لم تهتم بها، فإنك مع مرور الأيام ستفقد الكثيرَ من خيوط حياتك، وعندها يبدأ التمزّق والضياع.. وإذا اسْودَّتْ كلُّ ألوان هذه الدنيا في وجهك، ومن حولك، فعلى الأقل كن أنت أقلَّ سَوادًا منها، وكن أنيقًا حتى أمام الموت البشع إذا هاجمك، حتى لو لم تكن لديك قدرة على فعل أي شيء من قبيل الفن.. على المرء أن يصنع من نفسه فنّانًا، وعليه أن يستمتع بما في هذه الحياة من لحظات رائعة، وأن يغتنم تلك الفُرَصَ الجميلة التي تهبط عليه من حين إلى حين.

في هذه الحياة، ما ليس بفن لا يفيد في شيء، ولا يعيش حياة طويلة.. الموت حركة بلا روح، والفن روح متحركة ولها جسد يغطيها أيضًا، فالفن يجعل للأشياء روحًا ومعنى، حتى تصير الحياة أمامنا أقلَّ بشاعةً مما هي عليه في الواقع.. الفن روح ثورية جذّابة، تسير بلغة مدهشة وتهدف إلى تغيير العالم من منطلق جماليّ، شاعريٍّ وفلسفيّ.. لقد كان زوربا اليوناني يرقص، يرقص بشغف وجنون وحرية، خصوصًا في الأوقات العصيبة.. إذن كان يمارس الفن، وينقذ نفسه به.
نحتاج الفن في معظم الأوقات، إن لم يكن دائمًا.. الفن ضد أمرين هما الضجر والعنف، أو الضجر والبشاعة.

عندما يباغتك اليأس في أي لحظة، انهض في وجهه، وقل له فورًا: اغرُبْ عن وجهي.. هذا بالتأكيد نوع مُهِمّ جدًّا، نوع من الفن.

      
تشارلز بوكوفسكي، الشاعر والكاتب الشهير، كان يكتب، كانت الكتابة فنه الوحيد، وكان يمارس هذه اللعبة العبقرية، لينجوَ من الهاوية، وكفى، الهاوية التي كانت تلتف عليه غالبًا، مثل حبل مشنقة، يقول: “ساعدتني الكتابة من الاستمرار عندما لم تكن الحياة تقدم لي شيئًا، عندما كانت حياتي فيلم رعب”.. هذا التصريح يعبّر عن حالتي أيضًا.. ثم يقول بوكوفسكي: “ولهذا أكتب في الأساس: لأُنقِذَ مؤخرتي من مشفى المجانين، ومن النوم في الشوارع، ومِنّي”. إذَنْ، أنتَ تستطيع الاستمرار في الحياة، وربما لأطول مدة، فقط عليك أن تمارس أيَّ نوعٍ من الفن، بل لا بُدَّ أن تصنع فنّك الخاص، أن تخلقه بنفسك، وسوف تحترمك هذه الحياة العظيمة القيمة.. يمكنك أن تصبح فنّانًا من خلال إتقانك لعمل بسيط، أو أن تصنع تحفة فنية من مجرد أشياء عاديّة، أو من كلمات سهلة، فالفن يحتاج منك إلى شجاعة وثقة وشغف وتدريب مستمر.

عندما يكون قلبك في أسوأ حالاته، فعليك بجرعات صافية من ينبوع الفن، وارتشفها بعشق، يتركك المرض أو الوجع.. وفن الحياة هو أن تعمل وتجتهد لتكونَ حياتك بعيدة عن العبث، ولتنموَ شخصيتك بشكل أفضل.
هناك من يقول: “الفن لا يحتمل الغموض وعدم اليقين والتشويه”، وهذا بالنسبة لي صحيح.. وآخَرُ يقول: “الفن هو الدواء الذي يُقدِّمه الفنان لأبشع مرض يصيب روح الإنسان، ويتمثل في فساد الوعي”، وهذه واحدة من ثمرات الفن الكثيرة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى