شُرْفة

سيجارة..

كتب/ عبدالرحمن الزراف

في مراهقته، وبحمّى التجريب يدخن الفتى أول سيجارة.. لا تروق له إلى ذلك الحد الذي كان يتصوره، لكنه يعاود الكرّة، وتلوح له في دوائر الدخان ودواره صور أخاذة اختزنتها ذاكرته لمدخنين، أبطالًا في أفلام، أو شعراء في احتراقهم الأثير.

يعتاد شيئًا فشيئًا على هذه العادة الجديدة والمحظورة، التي يضيف إليها الخوف استيهامات جمالية، ككل لذة مسروقة.

يحرص على محو آثار هذه اللذة مخافة انكشافها، وكلما همّ بتدخين سيجارة، قفزت إلى ذهنه صورة أبيه بملامح قاسية ومتجهمة، ورأى في كل العيون جواسيس محتملة، ليس لها من مهمة سوى نقل خبر الفعل المشين لوالده.

ومع حرصه الشديد المحفوف بهذا الخوف، لا يصعب على أمه اكتشاف الأمر، لم تخبرها العصافير، رائحة قميصه الذي غسلته من فعلت، لكنها وككل الأمهات الطيبات لم تُلقه على وجه أبيه لتتسع حدقتا عينيه من وقع الصدمة غير المتوقعة، والله وحده يعرف بما سيصنع حينها!

تسأله عمّا هي على يقين منه،  فيتحجج بأنه جلس إلى جوار مدخنين، فتتظاهر بالتصديق.

حين تجد علبة سجائر في جيبه لاحقًا، تخفيه على الفور كي لا يراه أبوه،  ولا تسأله عن الأمر،  فهو حتمًا سيقسم أنه ليس له،  بل لصديق لم يجد مكانًا يحتفظ فيه بسجائره سوى في جيبه.

يستمرّ تواطؤ الأم التي صارت تعرف السرّ،  وتشترك في عملية التضليل والإخفاء التي تستمرّ، فيما الفتى يدخن في أماكن خفية، يستوي عنده أن يفعل ذلك في سطح البيت أو الحمام.

في مرحلة لاحقة.. يعرف الأب بطريقة ما أن ابنه يدخن، وأن كل تلك القداحات التي يحتفظ بها ليست للإضاءة فقط، لكنّه يُسرّ الأمر في نفسه، ويتظاهر بعدم المعرفة، ويستمرّ هذا الاتفاق المضمر بالدعممة بين الطرفين لسنوات.. الأب يعرف والابن يعرف أنه يعرف، لكنهما يتحاشيان الإقرار بالأمر، أو الحديث عنه، وتستمرّ سجائر السرّ في الاحتراق!

في أحد النهارات الصائفة، وبينما الشاب وأبوه يمضغان القات متقابلين ومنفردين، ويتحدثان في أمور كثيرة ومتشعبة ترتجلها نشوة القات، وكلها تحيل بالضرورة لذكريات الأب، وتقود لاسترساله فيها..

وحين يسود صمت الساعة السليمانية، وتخفت حِدة الحديث، فيما قرص الشمس يسير نحو الغروب حاملاً معه الذكريات المستعادة.. يتململ الشاب، ويهرش شعره وأنفه محدقًا في السقف، فيما يشعل الأب سيجارة وهو ينظر إليه.

ودون أيّ مقدمات يخرج الأب سيجارة أخرى من العلبة، ويرمي بها نحو ولده الذي يخرسه هول الصدمة، ولا يدري ماذا يصنع!

ودون كلمات يشعل الشاب السيجارة التي أعطاه أبوه ويدخنان معًا، وهما يحدقان في الشمس التي اختفت ومعها الذكريات.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى