رئيسيشُرْفةغير مصنف

كــريتر

كتب/ أوراس الإرياني

الكتابة عن كريتر لا تحتاج إلى أصابع وأحرف وعولمة.. فقط أرفع يدي في الشيخ عثمان أو في المعلا أو في التواهي أو خور مكسر، كي أوقف حافلة، وبصوت يرتدي موجة.
أقول لسائق الحافلة: عدن ! وحتمًا ستقلّني الحافلة إلى كريتر.

فوهة البركان..

كعادته يدق قلبي..

نهضت من مكاني وبدأت الكتابة عنها بالروائح والأرواح وبصرير باب بيت جدي في حافة القاضي مسحتُ رأسي وعدت بذاكرتي إلى الوراء.. إلى البحر.. إلى حضن أمي،

وإلى بيتنا القريب من ساحل أبين في مديرية خور مكسر.

كانت خور مكسر.. المطار ومقار السفارات، ومنازل المسؤولين ورجال الدولة والهدوء الذي يجعلني أنتظر الخميس؛ كي نغادرها، ونقضي الإجازة في كريتر عند جدتي جوهرة.

كانت خور مكسر من بعد المغرب ترتدي الكرفتة، ونحن كأطفال نختفي، ونعود للبيت.

لن تشم رائحة طبخ الفاصوليا في شوارعها، ولن ترى عيناك من يلعبون “البطة” والدمنة والشطرنج في أركان حوافيها، وآخر الليل لن تسمع أصوات السكارى وضجيجهم.. إنهم من النُخبة.

أما الروتي كان يأتي إليها من فرن الأغبري الكائن في كريتر.

ويوزع الروتي فيها على أرجاء خور مكسر على منازلها، وعلى بعض البقالات التي كانت موجودة حينها.

كنا أطفالها المدللين، نشاهد توم وجيري بكل أدب، معتقدين بذلك أنها الشقاوة.

كنت أشعر بالفخر؛ لأن بيت جدي في كريتر، حافة القاضي.

إنه البيت الوحيد الذي ما زلت إلى الآن أراه في منامي !

يأتي يوم الخميس، أنهض من نومي باكرًا، أشاهد التلفاز إلى أن تستيقظ أمي.

كنت أعيش في المنزل أنا وهي فقط، ونستعد للذهاب والرحيل إلى كريتر.

ألوي قصبة “المداع” التي سنأخذها معنا، وأمي تحمل بعض ملابسنا في كيس وشنطتها، وترتدي الشيدر، نغادر ونغلق الباب جيدًا خلفنا..

نمر قرب بيت شهاب الذي نطلق عليه بيت الحكومة تسكن فيه أختان لم يتزوجا إلى الآن، كانتا لا تحبان أن يلعب الأطفال قرب بيتهما..

نصل إلى منتصف الشارع على يمينه بيت باقر، منزل كبير مهجور يقال إن صاحبه قُتل على يد ابنه.

وعلى يسار الشارع قصر كبير نطلق عليه بيت خدابخش، وهذا القصر أقام فيه فريد الأطرش حفلة غنائية، استضافه

خدابخش عندما كان وزيرًا للإعلام أيام حكم بريطانيا.. يسكن فيه رجل عجوز طيب يدعى اسماعيل.

أخيرًا وصلنا الزقاق الفاصل بين حافتنا والشارع الرئيسي، نجتازه بسرعة وتنتهي أصوات الغربان.

كنا حينها نستطيع رؤية البحر من مكان وقوفونا، وانتظار

الباص الذي لن يتردد في نقلنا إلى كريتر.

يتوقف الباص قرب البنك، ننزل منه وتبدأ علاقتي مع التمرد والروائح والحياة.

نمشي بضع خطوات ونصل إلى المتحف الحربي، نتجه يسارًا.. أعتقد أنها حافة اليهود، ندخل زقاق تحتله رائحة الخمير، وتسمع فيه صوت غناء أحمد بن أحمد قاسم يخرج من نافذة أحد المنازل الصغيرة.

نخرج من الزقاق إلى زقاق آخر فيه رجل عند باب منزله يلبس الفوطة فقط، وجسده كله مغطى بالحناء.

وأخيرًا نصل إلى سوق الزعفران الذي تفوح منه رائحة القطن والبز والبخور إلى أن نصل إلى أبو بادي (بائع التمباك)، وكالعادة أمي تعاتبه على تمباك الأسبوع، ثم نغادر ونتجه لبائع الفحم الذي – أيضًا – لن ينجو من عتاب أمي.

نشرب قلصين ليم بارد ونتجه إلى سوق الذهب، وبعدها إلى آخر شارع يفصلنا عن حافة القاضي، أو إلى الحياة.

امرأة تنزل سلة بحبل من النافذة.. أطفال يركضون، وشباب يمرحون، وقصات شعر جديدة، ولعبة الجيم، وبائع التمبل ورائحته.. وابتسامة المرأة العجماء التي تخيفني بها أمي إذا لم أذهب إلى النوم باكرًا..

كل شيء في كريتر غير موجود في خور مكسر..

لم يتبقّ سوى خطوات بسيطة لدار جدي الذي تسكن فيه جدتي مع امرأة صومالية كبيرة في السن اسمها “ذهبو”، وقطة تدعى زهرة.

أخيرًا وصلنا، ندفع الباب الخشبي القديم المطلي بالأصفر، ونركن الحجرة القوية عليه كي لا يُغلق.

ونصعد عتبات الدرج الخشبية التي تصدر صوتًا ينبه أهل الدار بأن أحدهم قادم، ورائحة الأرز التي تعده جدتي للغداء.

بلاط دار جدي بلاطة لونها أبيض وبلاطة لونها أسود، فيه برندة وسرير جدتي، وسوف تنام عليه ذهبو.

كان أخوالي يقولون بأنها جدتي، وكنت أغضب وأبكي..

وقرب البرندة باب يؤدي إلى غرفة مرتبة، وفيها تلفاز وصورة رجل أسمر في رأسه مشدة ملوية.. إنه جدي الذي مات في عام 1953.

ونوافذها الخشبية قديمة تطل على الشارع، وعلى بيت أبو بكر السيد – مدير ثانوية لطفي جعفر أمان، وبيت آخر لا أذكر اسم مالكه لأني كنت مهتم بالفتاة التي تظهر من نافذته، واستطعت معرفة اسمها.

وتطل أيضًا على قبر في وسط الشارع يطلقون عليه قبر المظلوم.. لا أدري لماذا هو مظلوم؛ لأننا دائمًا نهتم بتاريخ الظالمين..
جدتي امرأة صارمة تنتمي إلى منطقة الوهط في لحج، تملك الكثير من الحِكم، لا تحب الدلع، لا تحب القات، وتسخر من الذين يتعاطون القات، وأولهم أمي.
كانت تقول لي جدك كان يأتي بأفخر القات يشبه أرجل الحمام، لكن جدتك لم يدخل فمها غير المسك والعنبر.

كانت تبدأ حكاياتها القديمة بقولها: “أول أمس”، وكانت تغضب لو رأتني أشرب الماء من رأس القارورة، تقول بأن الماء الذي ينزل يحفر الصدر عند نزوله، وكانت تنام وتحت وسادتها سكين.

وكانت ترفض الذهاب إلى بيت أولادها، والعيش معهم.

تقول: (أني معي ثلاث طوابق)، تقصد البيت.

وكانت لا تحب الحزب الاشتراكي؛ لأنه قام بتأمين نصف منازل الحارة التي كانت ملك جدي.. وكانت تعرف معنى كلمة سخّان بالإنجليزي..

في الدار ممر طويل فيه غرفتين قرب بعض، وفي نهايته المطبخ والحمام، وإذا رفعت رأسك تستطيع رؤية السماء.

وأما المرأة الطيبة “ذهبو” كانت هادئة لأنها متعبة وكبيرة في السن، وتعاني من وجع في العمود الفقري.

كل ما أعرفه عنها أنها عاشت هنا منذ زمن طويل.

أما القطة زهرة كانت مدللة، جسدها مطلي بلون الحناء، أكثر أوقاتها تقضيها في النوم والمشي ببطء.

نتناول الغذاء، ثم أساعد أمي في تجهيز الفحم والمداع، وأنتظر أذان العصر الذي سيعلن موعد خروجي إلى الشارع، وتناول البطاط الحُمر، والانطلاق إلى بيت البهجي عند صديقيّ هاني وسليمان.

نقضي الوقت في اللعب والتسكع في شوارع كريتر وسماع قصص فتوّات الحوافي ومضغ التمبل، وبعد صلاة العشاء أعود إلى البيت.

وفي آخر الليل أتسلل إلى النافذة، وأراقب من يلعبون البطة، وأستمع لأصوات سكارى الليل.. وهذا يغضب جدتي.

كل خميس، وفي الأعياد، وفي زيارة الولي العيدورس أجمل أيام طفولتي؛ لأني سأذهب إلى كريتر.

وفي حرب 1994 تركنا خور مكسر بسبب القصف العنيف فيها، وعشنا في كريتر.

وكنت أتمنى ألا تنتهي الحرب؛ كي لا أعود إلى خور مكسر، وفي ثاني ثانوي كانت جدتي مريضة وانتقلت للعيش معها، وكنت أذهب إلى الثانوية من هناك.

حينها دخلت السينما واندهشت..

في مقبرة القطيع كنت أتعاطي القات سرًّا.

وفي إحدى الأيام جاء إمام مسجد جوهر، وقال لي: بارك الله فيك.. إنك هنا لتذكّر الموت.

وفي الثاني أحضرت كل أصدقائي لتذكّر الموت، وأصبح لدينا مقيل.

في الأعياد يجتمع كل أخوالي في الدار، ويأتي خالي عبدالفتاح، لا يخبرني بأنه قبل وصوله تناول عشرة إطارات سيارة، وكانبة !

وكنت أندهش لهذا !

وفي عصر العيد، الجِمال في شوارع كريتر مدهونة بالحناء، تجر الأطفال والمراجيح في كل حارة، وأصوات الألعاب النارية المتواضعة.

والكركوس عبارة عن خيمة خشبية يقام فيها عروض خفة اليد.

والسكريم الملي.

أشياء لا تحدث في خور مكسر التي لولاها ما كنت أدركت جمال كريتر.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى