رئيسيشُرْفة

26  سبتمبر.. الرمز والمعنى 

كتب: عبدالرحمن الزراف

يقول فيلسوف الثورة وحكيمها الشهيد حسن الدعيس: “فإنما يُغلَب الحقُّ بيأسِ أو شكِّ المتمسكين به”.

سألت أبي: متى انحسر الاحتفال الشعبي بالثورة و”التنصير” (إشعال النيران) في الجبال؟

قال: في نهاية الثمانينيات تقريبًا.

حدث ذلك حين فقد الناس روح الثورة وقِيمها ومعانيها، ولم تعد تعني سوى إجازة رسمية وعرض عسكري وأغانٍ وطنية لا تحيل إلى معانٍ، بل إلى شخوص، وأصبحت محل نقمة وغضب الناس بل وتهكمهم.

من خلال قصائد الشعر الشعبي في تلك الفترة، نلاحظ انحسار الثورة من قلوب الجماهير، ويأس الناس وخيبتهم، كما في قصيدة يقول مطلعها:

ذي قام بالثورة شرب كأس الردى

وشلّها ذي كان عند احمد غفير

أو في قول الشاعر عبدالرحيم التويتي:

كان القدح سته واليوم بستين

خمسين تطور واربعه حضارة

بل وصل الأمر إلى مقارنة الوضع بفترة الإمامة وتفضيلها كما يقول الشاعر:

كنا على السادة وقد كانت عمامة واحدة

واليوم في الساحة ألف سنحاني عقيد

أو في تذكير وتحذير الشاعر قاسم الشهلي:

لا تأمنوا مكر السما

إن السماء لها عيون

إنّ الذي أنهى العمامة

سوف ينهي البنطلون

فحين اختفت الثورة من القلوب كانت عودة الإمامة نتيجة طبيعية وحتمية.. كما يقول البردوني في قصيدة “سباعية الغثيان الرابع”:

أجاءت مفاجأةً.. كلّ شيءٍ

خلا الجوّ من عكسه محتمل

وفي قصيدة “أغنية من خشب”:

لأنَّ الفراغَ اشتهى الإِمتلاءَ

بشيءٍ فجاء سِوى المُرتَقبْ

ثم يجملها قائلاً:

لماذا الذي كان ما زال يأتي

لأن الذي سوف يأتي ذهب

لأنّ أبا لهبٍ لم يمُت

وكلّ الذي مات ضوءُ اللهب

أهمية استحضار روح سبتمبر

لهذا يغدو احتفاء واحتفال الناس بالثورة في الأعوام الأخيرة واستحضار عظمتها ومعانيها مهمًّا في عودة الفكرة وعودة المعنى وعودة الروح.

إذا عادت الجمهورية إلى القلوب والأفهام، وعادت معانيها التي عرفناها أخيرًا حين عشنا أضدادها، هيأ الله أن تعود واقعًا.

ونحن نحيي ثورة 26 سبتمبر، هناك دروس علينا استحضارها، وأسئلة يجب طرحها:

هل كانت الثورة حلمًا بعيد المنال في الخيال الشعبي؟!

للإجابة على هذا السؤال علينا أن نحاول قراءة الواقع العام للبلاد قبلها.

الإمامة تُحكم قبضتها على شعب يغرق في الجهل والفقر، تفتك به الأوبئة والمجاعات، وتثقل كاهله الجبايات، تعزله عن العالم سلطة جائرة وتسومه سوء العذاب قتلاً وسجنًا ونهبًا، وتسخّر عساكرها وعكفتها الذين هم بعض الشعب، بعد أن روّضتهم بالجهل والحاجة للقيام بالمهمة.

يبدو المشهد من بعيد شديد القتامة، ولا تلوح منه أيّ بادرة ضوء أو أمل.

بالاقتراب أكثر من الصورة، نجد انتفاضات كانت تحدث في المناطق المختلفة: حركة حاشد، انتفاضة المقاطرة، ثورة الزرانيق… هذه الانتفاضات المتفرقة كانت الإمامة تستفرد بها وتواجهها ببطش شديد، وتُنكّل بأصحابها وتهدم منازلهم؛ زيادةً في بثّ الرعب. ومثل ذلك كان يحدث للتمردات الفردية، أو ما اصطُلح على تسمية من يقوم بها “مفسد”. كل هذا كان يكرِّس في الوعي الشعبي صورة الإمامة كغول جبار لا يُقهر.

كما في أحد المهاجل الزراعية الجارية على ألسنة المزارعين إلى اليوم:

يا الوادعي خلي التجنان

ما جعيل يِحْرب إمام

لا نعرف تفاصيل عن الوادعي الذي يخبرنا عنه المهجل، أو ما قام به، لكنّ المعنى الذي يقدمه المهجل يوضّح صورة الإمامة الجبارة التي كانت حاضرة في أذهان الناس آنذاك، واعتبار التمرد عليها ضربًا من الجنون محسوم النتيجة، والتهوّر الذي يودي بصاحبه إلى الهلاك وخراب الديار، كما تدلّ كلمة “جعيل” في المهجل التي تعني الأحمق الذي لا يفكر بعواقب أفعاله.

كانت حركة 48م بمفاهيمها ورؤية الحكم فيها، امتدادًا طبيعيًّا تمخضّ من مجموع الانتفاضات، وتراكم الغضب والتمردات.

ورغم الانتكاسة التي لاقتها الحركة، والبطش الشديد الذي أعقبها وأعاد تكريس ذات الصورة للإمامة التي لا تُقهر، إلا أنها أحدثت شرخًا وفتحت نافذة للضوء في ليل الشعب الحالك.

وبالرغم من كل ما يُقال عنها، وأنها استبدلت إمامًا بإمام، إلا أن فكرة الدستور، الذي عُدّ وقتها كُفرًا، يجب أن تُقرأ في سياقها الزمني وظروفها كفكرة متقدمة.

حين نناقش موضوعًا كالرِقّ مثلاً من منطلقات واقع اليوم وسياقه، ستبدو الرؤية مختلفة تمامًا عن تلك التي قدمها ديورانت في كتابه “قصة الحضارة”، حيث عدّ تجارة العبيد سمة من سمات التحضّر في لحظة معينة من تاريخ البشرية، قبلها كان المنتصر يأكل المهزوم بالمعنى الحرفي للكلمة.. من هنا أصبح أسر المنتصر للمهزوم واستغلاله فعلاً تقدميًّا في زمنه وظروفه.

ذات التراكم الذي أدى لحركة 48، هو ما حدث بعدها وأدى لثورة 62.

يقول البردّوني في قصيدة “حكاية سنين” في معرض حديثه عن سبتمبر:

عشرون عامًا قُلّباً

حملتْ به أمُّ النضالِ

إذن لم تكن الثورة معجزة مفاجأة، أو طفرة وصدفة غير متوقعة، لكنها كانت حلمًا وفكرة، حثّ الإيمان بها خطى الساعين إليها، يقول شاعر الثورة صالح سحلول:

كأننا والقدَر كنّا على ميعاد.

في كتابه “فنون الأدب الشعبي” يتحدّث البردّوني عن العلاقة بين الثورة الحدث والوعي بالثورة، ويقول:

“والفِكر إشعاعُ الثورة ودليلُها ورايتها المرفوعة وميادينها الزاخرة الهادرة، وليست الثورة قصف مدافع وانهيار قصور، وإنما كل الطلقات والقذائف صدى النفس الرافضة.”

نحتاج هذا ونحنُ نستحضر 26 سبتمبر الإمكانية والنموذج، الثبات والجدوى المستمرة لكل غضب ورفض، وعدم السخرية أو التقليل من كل فعل أو كلمة، أو رفض بأيّة وسيلة، هذا اليقين الذي يوقد الفعل ويحثّ عليه ويراكمه، ويحمي من اليأس والتخاذل واستعجال النتائج، هو المعنى الحقيقي للصبر، غير معناه الشعبي المرادف للعجز والانتظار السلبي الناتج عن فقدان الحيلة.

نقطة أخرى مهمة علينا ألّا نغفلها، ونحن نستحضر ثورة 26 سبتمبر وسِيَر رموزها الأبطال، وهي الحذر من إلباسهم رداء الأسطورة، هذا الالتباس الذي يحدث غالبًا بين عنتر والعنترية، عنتر بن شداد كان يقوم بواجبه الإنساني وما أملته عليه بيئته وظروف نشأته ومسؤوليته تجاه نفسه وقومه، أما العنترية فهي تأويلاتنا المتعالية والمُبالغ بها لبطولته، وتحويله لأسطورة، وبدلاً من أن نقتدي به ونتحلى بشجاعته ونقوم بواجباتنا العادية التي فيها خلاصنا كما فعل، يهرب الجبان فينا من واقعه، لنشوة الحكاية وخدرها والرضا الذي تمنحه، وكأنه قد قام بما عليه، فبدلاً من أن يكون علي عبدالمغني، يكتفي بسرد حكايته الخارقة كمخلّص.

عندما نتحدّث عن سبتمبر، لا نقف كثيرًا عند الحدث نفسه، نحن لا نستعيد الذكرى احتفالاً أو تباكيًا، بل نحيي الفكرة، فكرة الثورة وجذوتها، الأمل والإمكانية في قلب الاستحالة. هكذا يكون سبتمبر أماننا وأملنا ومستقبلنا.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى